الشمس تفرش أشعتها الذهبية جدائلاً على قرية كوجو المحاصرة والتي تتأرجح على نار القلق. اتسأل هل يمكن ان يكون هؤلاء الوحوش قادمون الى هنا لقتلنا فقط ؟ ام ان قتلنا هو مبرر لعدم كشف الوجه الحقيقي لتنظيمهم ؟ هبطوا إلينا من قرون سحيقة بلحى كثيفة وشعور طويلة ولباس قرووسطي ولهجة عنيفة وسيوف معدة لقطف رؤوس الأبرياء. كنت ادرك باننا نتحول الى ارقام لاقيمة لها حين تُرسم معادلات وجود القوى الطامحة للأرض والسماء ! فهل يمكن فعلاً ان يتركوننا نختار طريق الهروب الى الجبل بعد ان نسلمهم اموالنا ومصوغاتنا ونحتفظ بأحلامنا في الحياة ؟
لست متأكداً من أنهم سيتركوننا نذهب الى الجبل فلقد قتلوا رجالاً كثيرين قبل عشرة أيام في القرية الاخرى عند غزوهم لشنگال فكيف اصدق بأنهم سيتركوننا دون ان يعاملوننا بطريقة تناسب عقليتهم ومخططاتهم . الساعات تمر بسرعة وأحس مرة اخرى برائحة كريهة لم أتبين مصدرها. سمعت طرقات خفيفة على الباب .
ــ من بالباب ؟
ــ انا وليد جارك
ـ لقد طلبوا منا جميعاً الذهاب الى مدرسة القرية . فلقد انتهت المدة المقررة ويبدو انهم اتخذوا قراراً بشأننا .
سمعتْ زوجتي حديث وليد ونظرتْ في عينيّ بتأمل يشوبه الاستفهام وقبل أن تقتلعني زوابع اسئلتها من افكاري ، قلت لها :
ــ علينا ان ننفذ أوامرهم . احضري الاولاد وساعدي أمي وانا اخذ بيد ابي حتى نصل الى المدرسة .
خرجنا من المنزل تاركين وراءنا سنوات أعمارنا التي قضيناها ببساطة الحياة وبكسرة خبز كنّا نتقاسمها في ليالي الشتاء البارد.
ألقيت نظرة الى الخلف فاذا بإلين الصغيرة تمشط شعر لعبتها وتمشي ببطئ . طلبت منها ان تسرع لكي تلحق بِنَا. وصلنا المدرسة وكان اهل القرية مجتمعون هناك والرجال الملثمون حولهم مدججون بالسلاح . وعند وصولي وسط الجموع طلبوا من عائلتي ان تصعد الى الطابق العلوي بعد ان اخذوا مابحوزتنا من مصوغات وكانت قليلة جداً خاتم الزواج وأقراط ابنتي الصغيرة ألين .وخاتم كانت تحتفظ به أمي في إصبعها منذ عقود وكان من عيار ١٤ . بكت الين حين انتزعوا اقراطها من اذنيها الصغيرتين عنوة . وأبت زوجتي الذهاب وتركي هناك .فأومأت اليها برأسي ثم اغضضتْ من بصرها وكأن دمعة عميقة تحتبس مع انفاسها دون ان تصرح وسط صمت وذهول الجموع المحتشدة.
امسكت زوجتي بيد ابني وابنتي وأخذتهما معها .كانت تلك النظرة الاخيرة التي رايتها فيها ورأتني . قالوا لنا بأن المدة انتهت وأنتم مازلتم على عنادكم .ماذا تريدوننا ان نفعل ؟ هل تريدون ان تعلنوا الان اسلامكم فتذهبون للقرية ام تريدون الذهاب للجبل لملاقاة اهلكم هناك ؟
ارتسمت ابتسامة انشراح على وجه معلم القرية فيما كان القلق ينتابني وسط ذلك الضجيج وصراخ الاطفال .. لم يمر طويلا الوقتُ حتى احضروا لنا سيارات من نوع كيا البيك اب وقسمونا الى مجموعات فاخذوا أمي مع نساء أخريات يبلغن من العمر اكثر من خمسين عاماً وكان عددهن حوالي ثمانين إمرأة .. هرعتُ بأتجاه أمي لكي أساعدها على النهوض فلم يسمحوا لي وهددوني بالقتل اذا مااقتربت منها .
بقينا نحن الرجال في باحة المدرسة في انتظار مصير مجهول. جاء احد الملثمين وطلب مني وخمسة اخرين الصعود في سيارة تيوتا صغيرة لأحد أبناء القرية ويدعى ادريس ، الذي كان معنا ضمن الستة أشخاص. كانت السيارة صغيرة والمكان لايتسع لنا نحن الستة ماعدا السائق .فقال السائق الداعشي : مكانكم في السيارة ليس أضيق من قبركم الذي ينتظركم. حينها تأكد للآخرين ماكان يدور في خيالي. ركبنا السيارة دون ضجيج فكل منا يعرف الان بأنه سيترك وراءه عائلته واصحابه وأحلامه ليلقى مصيرًا رسمه له ملثمون ينتمون في طباعهم لسكان الكهوف . كان عددهم حوالي مئتين الى ثلاثمائة رجل وكانوا مسلحين بأسلحة حديثة الطراز ! يقودهم رجل شاب يدعى ابا حمزة لم أكن اعرفه من قبل لكنني ادركت من خلال لهجتهم انهم كانوا عراقيين عرباً ومن الجوار القريب الذين كانت تربطنا بهم صلات إنسانية . هل هناك من يشك في كرم أهل سنجار ؟ كنّا نساعدهم في رمضان ونعطي بعض المال لأولادهم ونوزع الصدقات، ونقيم العزائم في المناسبات وندعوهم ونقف بجانبهم في السراء والضراء .
صعدنا السيارة على مضض مجبرين تحت ضغط السلاح وجلست في المقعد الخلفي للسيارة ، كانت قناني الماء والخبز التي أعدتها العوائل لطريق الجبل الطويل !! ادركت ان السائق الداعشي الذي يقود سيارة ادريس قد غير اتجاهها باتجاه شنگال وليس باتجاه الجبل حينها قلت لأدريس لقد غدروا بِنَا وتأكدت ظنوني .لم يصدق ادريس بالأمر فقلت له :
ــ انظر نحن الان في الوجبة الرابعة وقد حملت الوجبات الاخرى سيارات كيا ذات حمولة طنين وبداخل كل سيارة حوالي خمسين شخصاً من مختلف الأعمار فلقد اعتبروا الصبيان ذوي الاثني عشر عاماً رجالاً يتصيدهم الموت ! قال ادريس وقد تغيرت ملامح وجهه التي بدا عليها الشحوب واضحاً :
ــ هل سيقتلوننا ؟ لماذا ؟ ماذا فعلنا لكي نموت في مقابر جماعية تتكرر على مدى العصور ؟ كنّا نظن ان زمن الإبادات انتهى يارافد ! كنّا نظن بأننا سنضرم النار في ماضينا المتيبس ونمضي نحو
المستقبل !
ــ السبب هو اختلافنا ياصديقي ولأن مخططاتهم تسعى لتحقيق اهدافهم السياسية عن طريق قتل المختلفين وتهجيرهم وسبيهم ، هؤلاء يحاربون الاختلاف الذي اراده الله لبني البشر .
وصلنا المكان الذي اختاروه لنا. مقبرة جماعية ستضم رفات احلامنا في الحياة والحب والعيش بأمان . كان احدهم يحمل كاميرا ڤيديو لتصوير واقعة القتل الجماعي واخرون مرتبين في صف واحد يحملون الأسلحة الرشاشة . رتبونا صفاً واحداً . لم أكن اخاف الموت لانني لم اتذكر في تلك اللحظة سوى عائلتي . نظرت في عيونهم التي يتقافز منها الشرر ، ولم أغمض عينيّ حتى اعطى احدهم الإشارة بالرمي وبدأ مكثفاً جداً فثار التراب وملأ المكان .أصابتني رصاصتين في قدمي والثالثة في يدي وفقدت على اثرها أصبعي الثاني والثالث من يدي اليمنى التي امسكتها بعد ان بقيتا متدليتين دون روح ، وبقيت أحملها في يدي على أمل اعادة الروح اليها اذا نجوت . بعد انتهاء مشهد الرمي سكت لبرهة هؤلاء الرجال وذهب قسم منهم لجلب وجبة اخرى من الضحايا ، وبقي عدد اخر منهم يترقب المقتولين فمن منهم يأن من الالم يضربونه إطلاقة غدر اخيرة لتنتهي حياته .
بقيت ساكتاً وتحملت ألمي لكي لايعرفوا بأنني مازلتُ حياً وتظاهرت بالموت بعد ان وجدت من كان بجانبي من اصدقائي قد غطته الدماء وغطت جسدي معه .مرت ساعتان من الزمن العصيب والسكون يخيم على المكان ، رفعت رأسي قليلاً عن الارض ، لم يكن هناك أحد ويبدو انهم غادروا المكان بعد ان ظنوا بان الكل قد قُتل وانتهى امرهم ، ولم يدركوا بأنه لا توجد جريمة كاملة ! وأننا سنكون من الناجين شهوداً على بطشهم وإبادتهم لقتل هويتنا . بحثت بين الجثث عن ناجين اخرين قبل ان اصرخ بصوتي المرتعد خوفا من أن يكون أحد الدواعش قريباً من المكان . رأيت والدي مضرجاً بدمائه وهو يئن بصمت فأقتربت منه . لم أكن اعلم ان والدي يمكن ان يكون معنا في تلك الوجبة . امسكت بيده وبكيت .قلت له :
ــ ابي ساخذك معي ونهرب من هنا وسأحملك على ظهري حتى نصل الى مكان قريب .
ــ لا يابني اذهب وانجُ بنفسك فانا جراحي ثقيلة ولن أعيش وجسدي ليس شابا ليحتمل كل هذه الاطلاقات ، وقبل ذهابك ناولني بعض الماء فهذا كل مااحتاجه لأفارق الحياة .
كانت تلك اخر كلمة نطقها وبقيت عيناه عالقة بوجهي ويدي اليسرى ماتزال ممسكة بيده.
اخترق حاجز الصمت والرهبة صوت قادم من بعيد قال لي انا حي ..انا حي يارافد .نظرت صوب الجهة اليسرى كان صوت أدريس.سألته :
ــ هل انت مصاب ؟
ــ نعم أصابتني إطلاقة واحدة وجرحي ليس عميقاً ... جاءني صوت ناجٍ اخر ليرش على جرحي ترياق الحياة ، كان صوت صديقي المعاون الطبي في قريتنا ويدعى الياس .ثم صوت آخر لصبي لم يتجاوز الثالثة عشرة ويدعى خدر .قال لي :
ــ عمي انا ايضا مازلت حياً ولم تصبني اية إطلاقة لان الجثث تراكمت فوقي فتظاهرت بالموت حتى جاءني صوتك . قلت لهم :
ــ اذن سنغادر نحن الأربعة المكان بهدوء وزحفا على البطن . انا اعرف هذه الأماكن جيداً والطريق الى الجبل ليس ببعيد فقط اتبعوني بصمت وحذر لننجو . خرجنا من تلك المقبرة الى مكان اخر بجوارها كان فيها كومة كبيرة من القش فاختبأنا فيها حتى طلوع الشمس. سمعنا صوت سيارتين لداعش مرت بالقرب من كومة القش فطلبت منهم السكوت التام والانبطاح حتى خرجت السيارة من نطاق ذلك المكان بعد ساعة أو اكثر بقليل . رأيناهم وقد جاؤا بالحفارة ليغطوا الجثث بالتراب لكي لاتعم الرائحة المكان . كانت عيناي معلقتين على والدي والذكريات تمر بسرعة .هل يمكنك ان تتخيل كيف يمكن ان يقتلوا والدك امام عينيك وانت تراه ولا تستطيع ان تسقيه او تدفنه ؟ سأعود اليك يا أبي اذا كُتبت لي الحياة ونجت أحلامي من الموت . احسست ان الشمس الحارقة تزيد من نزيف قدمي ويدي وانا مازلت ممسكاً بأصابع يدي خوفاً من ان تسقط وتضيع . ناديت على ادريس :
ــ تعال فالنزيف يزداد وأشعة الشمس الحارقة في منتصف آب تزيد من تدفق الدم وتلويث الجرح .ساعدني ادريس و خدر والصبي على الخروج من تحت كومة القش الى مكان المضخة المائية القريبة بعد ان تأكدوا من مغادرة الدواعش للمكان واخذوا الحفارة معهم . ثم تحركنا بأتجاه احدى المزارع القريبة . سمعنا أصوات إطلاقات نارية بعيدة كانت تضرب كومة القش وكأن احدهم احس بدبيب حركتنا فالتهب القش وأُضرمت فيه النيران بسرعة البرق ونحن ننظر من بعيد الى مايجري . طلّ الليل علينا بثوبه الاسود الحزين ، ومازال جرحي ينزف وبدأت قواي تخور بسبب الجوع والعطش والنزيف . عثرنا في المزرعة على قنينة ماء كنت اشرب منها رشفة واحدة كل حين خوفاً من النزيف . ساعدني ادريس وخدر في النهوض بعد ان قررنا المشي والتحرك ثانية في الليلة التي بعدها بأتجاه الجبل . مشينا طوال الليل حتى انجلى الليل دون ان ينجلي الحزن ، فأختبأنا مرة اخرى لكي لا يرانا أحدهم ، كنّا نخاف سيارات الطوارئ والدوريات التي يقودها الدواعش لتفتيش الأماكن وكنت انا الدليل للوصول الى الجبل بالرغم من جرحي العميق .مشينا لمدة اثنتي عشرة ساعة حتى وصولنا أسفل الجبل ، كنّا نظن بأننا وصلنا الى بر الأمان. لفني الصمت وتخيلت نفسي بانني فقدت قدرتي على النطق . كنتُ أنهارُ بالبكاء من الالم وأشدو كطائر جريح .موالات فقير خدر وقربال وپيرمجو وقاسم ميري كانت ترسل انينها الى ذاكرتي الحزينة .كنت استمع لصوتي في سيلان الزمن . وفجأة ترأى لنا شبحٌ لشخص بعيد قادم باتجاهنا . الصبي خدر يرتعش بجانبي خوفاً من ان يكون الرجل داعشياً . ثم قال لي المعاون الطبي الياس :
ــ يبدو لي ايضا انه داعشي يارافد فقلت لهم :
ــ اظن انه احد الناجين مثلنا من مقبرة اخرى اذ لايبدو بأنه حامل للسلاح بل أعزل . اختبأنا بصمت والقمر كرغيف يشعرني بالجوع يراقب صمتنا والجبل ينادي لاحتضاننا .اقترب منا الرجل قاصداً هو الاخر الجبل العتيد . عرفته على الفور كان الرجل من قريتنا ويدعى خلف فناديته بأسمه .نظر حواليه مندهشاً .فقلت له :
ــ انا رافد ومعي ادريس والياس وخضر لقد نجونا فتعال معنا لنكمل الطريق ونصعد الجبل.
إنضم خلف إلينا واسندوني من تحت ابطيّ لنتسلق الجبل .كنت شبه فاقد للوعي وانا انظر الى ذلك الجبل الصامد الذي كان ملاذنا الآمن طيلة الإبادات من بطش الظالمين . طلبت منهم ان يهربوا وينجوا بأنفسهم لانني أكاد افقد الوعي تماماً وقد انتهت مهمتي في مساعدتهم.
سمع الصبي خدر كلامي فبكى وقال:
ــ انا لن أغادر المكان ياعمي لانك كنت منقذنا وعلينا الوفاء .
وقال الآخرون :
ــ إما ان نصل القمة معاً او نموت معاً .هذا قرارنا يارافد .
كنت اغلب الوقت فاقداً للوعي وحين كنت اعود لوعيي ارى الزنابير التي استقطبتها رائحة الدم . أراها وهي تتغذى على جرحي ، وجسدي وكأنه ليس جسدي فقد تحولت كل قطعة منه الى جزء غريب عني . لم أكن قادرًا بعد على تحريك قدمي فلقد التهمها الالتهاب قبل الزنابير .بقيتُ على حالي تلك حتى سمع اخي بالامر بعد ان اخبروه بما حدث .واخي شاب لم يبلغ بعد الخامسة والعشرين قرر ان يغامر بحياته ليأتي وينقذني ، اخي الذي فرّ قبل دخول داعش للقرية وحمدنا الله انه لم يكن معنا حينذاك . هو الان يقرر النزول من الجبل حاملا معه حقيبة ملأها بالماء والخبز ، بعد ان استنجد بالقوات التي كانت تحارب داعش في الجبل .جاءت معه فرقة صغيرة تتكون من ثلاثين شخصاً من القوات الكوردية وجلبوا معهم حمارا لحملي .
وحين بدأنا التحرك بدأت داعش بالقصف فتراجعت القوات الى خلف الساتر وبقينا انا واخي لوحدنا.
ناداني احدهم :
ــ حاول ان تزحف على بطنك لتساعد نفسك الوصول الى الساتر فالقناص الداعشي قريب وستكون هدفاً له.
ساعدني اخي على النزول والزحف الى الساتر الذي تختبئ فيه القوات .كان احدهم قد أصيب بجرح بالغ في أسفل ظهره وينزف بشدة فساعده أصدقاؤه على المشي وساعدوني ايضاً لمغادرة المكان .اضطررنا ان نسلك الطريق الثاني المحاذي للجبل للدخول الى سوريا ومنها الى فيشخابورفي اقليم كردستان حيث الامان والطمأنينة. وحينها فقدت الوعي تماماً .فتحت عينيّ وانا في مستشفى دهوك وملائكة بيضاء ترفرف بأجنحتها حول غيمة جسدي الهشة. نظرت الى قدمي ماتزال في مكانها مضمدة الجراح ويدي قد أعيد اليها الاصبع الثاني والثالث الذين كانا متدليين وثقيلين. لم أكن افكر بما مررت به من اذى وعذاب بقدر ماكنت افكر بالنساء والأطفال الذين اختطفهم داعش .اعرف ان الموت واحد وصوره متعددة لكنني كنت متأكداً من ان تلك النسوة والأطفال يعانون الموت كل لحظة هذا هو جرحي الأعمق في الروح والذي لن يندمل ابداً.
**من قصص الناجين من مقابر كوجو الجماعية في سنجار