مظاهر تخلّف التعليم في العراق؟ وهل يمكن تخطي هذه المظاهر لنتقدم به؟
واحدة من القضايا الرئيسة التي أثارت الاهتمام في الآونة الأخيرة، هي موضوعة التخلّف وما تحمله من معانٍ تمثل التخلّف الاجتماعي، والتخلّف التنموي، والتخلّف التعليمي الذي بدوره يقود الأفراد إلى وضع التهميش في مجالات الحياة الأخرى، سواء كانت اقتصادية أو سياسية. يؤثر التعليم على المجتمع، والمجتمع بدوره يؤثر على التعليم، حيث إنهما يعتمدان على بعضهما البعض لكونهما مترابطان، لا يمكن الفصل بينهما، فلا يمكن لأي مجتمع حديث أن يتطور ويتحدث او حتى مجرد المحافظة على مكانته، إذا لم يكن على قدم المساواة مع المجتمعات الأخرى في التعليم. فالتعليم يلعب دوراً مهماً في تسهيل التقدم الاجتماعي، والاقتصادي من ناحية، ونقل المعرفة وتحديثها وتطويرها من جيل إلى آخر من ناحية أخرى. وبالتالي، يصبح من الأهمية بمكان أن يتعلم الأفراد ويتحسن أداؤهم خصوصا في بيئة اليوم، التي تتغير فيها المعرفة العلمية والتكنولوجية بسرعة.
لا شك إن التعليم في العراق يعاني من أزمة تخلف مزمنة، وربما يمكن القول إنها أزمة مستعصية على العلاج، بسبب كثرة العوامل والأسباب الكامنة وراء هذه الأزمة. وقبل النظر في أسباب ومظاهر التخلف التعليمي للعراق، يُنصح بالعودة إلى التاريخ القريب، ومعرفة ما كان عليه وضع العراقيين بعد نشوء الدولة العراقية الحديثة في مجال التعليم.
في ذلك الوقت، بدأ العراقيون يتطورون في جميع مجالات الحياة تقريباً، سواء كان ذلك في التعليم، أو الاقتصاد، أو في المجال الاجتماعي والسياسي، لأنهم أعطوا أهمية للتطور الفكري وأولويات البحث عن المعرفة. وبدأ اهتمامهم بالدراسة والتعلم في الولايات المتحدة، وبريطانيا وفي أنحاء مختلفة من العالم.
وكان للتغير الاجتماعي الذي أحدثه رواد العلم، والثقافة تأثير هائل على كل من التركيب الجزئي والبنية الكلية للمجتمع العراقي آنذاك. كانت التربية والتعليم آنذاك، فعالة في إحداث التغيير الاجتماعي، وكان العراقيون يتقدمون في جميع المجالات على شعوب المنطقة. ونمت الدولة العراقية باطراد في تلك الفترة اعتماداً على المتعلمين خصوصا الدارسين منهم في خارج العراق، من حيث الإدارة، والخدمات التعليمية والصحية، بل تجاوزت ذلك الى ميدان الإنتاج المادي (كمثال بناء الصناعات، والبنى التحتية... الخ).
وكمثال على مستوى التعليم آنذاك ما يتداول عبر صفحات التواصل الاجتماعي لورقة امتحانية لمادة الجغرافيا للسادس الابتدائي عام 1926 والتي قورنت مستوى الأسئلة فيها بالمستوى الإعدادي أو الجامعي في يومنا هذا، وما رافق ذلك من ملاحظات مليئة بالآهات والحسرات على ما وصل اليه التعليم من تدني.
مظاهر أزمة تخلف قطاع التعليم في العراق
التعليم في العراق موضوع مثير للجدل خصوصاً لما بعد 2003، بحيث أصبح واضحاً إنه في أزمة في ظل المناقشات الحادة، والاحتجاجات والنزاعات، ورفض الرأي العام الشعبي للسياسات الحكومية والممارسات المدرسية لها. تتمثل أزمة التعليم في العراق بعدة مظاهر منها:
1- اصبحت المدرسة محوراً للنزاعات الاجتماعية والطائفية والسياسية، وأصبح التعليم في العراق يواجه تحديات من قبل سيطرة أحزاب دينية متنفذة على بعض المدارس، وهيمنة التعليم الديني على المناهج الدراسية، وترسيخ الهوية الطائفية من خلال أساليب عديدة منها إنشاء مدارس للوقفين الشيعي والسنّي ووضع مناهج وفقاً لطائفة المدرسة.
2- مستوى التعليم في العراق متخلف بالمقارنة بالدول الأخرى في العالم. وبالرغم من عدم وجود تصنيف دولي يضم العراق لممانعته في توفير معلومات عن اقتصاده، إلا أن الدلائل تؤكد على ذلك من خلال مؤشرات تعليمية كنسبة عدد المعلمين إلى عدد الطلبة، وعدد ساعات التدريس في السنة ونسبة الأمّية، ونسبة الهدر التدريسي، وحالة المدارس، ومعدل عدد الطلاب في الصف وكفاءة المدرّس والتدريس.
3 -ضعف المناهج وطرق التدريس من تعليم الطفل وصولاً إلى المستوى الجامعي وعدم مواكبتها التطور التربوي في العالم.
4- اتساع ظاهرة الأمّية (18% من المواطنين العراقيين لا يجيدون القراءة والكتابة).
5 -كثرة المدارس الطينية (أكثر من 2000 مدرسة تقع معظمها في محافظات ذي قار والبصرة والعمارة والمثنى والقادسية والنجف) والمدارس الآيلة للسقوط (أكثر من 400 مدرسة) والمدارس المزدوجة والثلاثية الدوام، بالإضافة الى اكتظاظ الصفوف في هذه المدارس. وبحسب وزارة التربية يحتاج العراق لنحو 9000 مدرسة جديدة في عموم البلد عدا إقليم كوردستان.
6- قلة كفاءة المعلم/المدرس: من بين أكثر من 394 ألف مدرس في العراق، هناك 74% فقط مؤهلون أكاديمياً، بينما يوجد حوالي 100 ألف مدرس لديهم معرفة قديمة ويحتاجون إلى إعادة تدريب وإعادة تأهيل.
7- قلة معدل عدد أيام الدراسة في السنة: تعد السنة الدراسية العراقية واحدة من أقصر السنوات في العالم حيث يقضي الطلاب 151 يوماً فقط في المدرسة كل عام - أي أقل بنسبة 29 يوماً من الطلاب في دول منظمة التعاون الاقتصادي، والتي تصل إلى 180 يوماً في السنة بينما يقضي الطالب 210 و220 يوماً في اليابان وكوريا الجنوبية، على التوالي.
8-النسب العالية للهدر المدرسي، فوفق تقديرات الأمم المتحدة يرتاد أكثر من ثلاثة ملايين طفل عراقي المدارس بانتظام، بينما هناك مليون و200 ألف طفل هم خارج المدرسة تماماً، وهو ما يمثل انعكاساً لهدر بشري كارثي يصيب الطفولة العراقية كما يصفه الكاتب همام طه.
9- يُجبر نظام التعليم في المدارس العراقية الطلاب للحصول على مقعد في كلية مفضلة، لحفظ كتبهم المدرسية بالكامل. لقد حقق هذا النظام نتائج سيئة للغاية. على سبيل المثال، في عام 2016، كان عدد الطلاب الذين حصلوا على علامات 100٪ في اختباراتهم للدور الاول 1158، في حين بلغ عدد الطلاب الذين حصلوا على علامات ما بين 95 و100٪ مساوياً الى 11327. رسخ هذا النظام الأسلوب البائد في الاعتماد على الحفظ من أجل تحقيق علامات كاملة.
10- الفساد المالي: تعتبر مشكلة المدارس الطينية من أبرز ملفات الفساد، بالإضافة الى الفساد المرتبط بطباعة الكتب المدرسية خارج العراق والذي كما أشار اليه أحد النواب دليل واضح على "رغبة المسؤولين بإيجاد فرص لسرقة المال العام وعدم تشجيع الصناعة الوطنية".
هل يمكن الخلاص من هذا التخلف؟
أدت أزمة التعليم التي ابتدأت منذ نهاية الستينيات في القرن الماضي الى نتائج مدمّرة من جهل وعادات بالية وتقاليد، وثقافة مغايرة بدأت تغزو المجتمع العراقي. ولم تعد الحلول الترقيعية أو الإجراءات الجزئية أو القرارات الاعتباطية، وغير المدروسة تنفع في النهوض بأوضاع المدرسة كي تضطلع بأدوارها التربوية والتعليمية لبناء الإنسان العراقي. ولن تستطيع من أذابة الجمود التربوي وإزالة أسوار الحصار الداخلي والقضاء على الفساد من دون توفر رؤية ستراتيجية للإصلاح، وتكوين مدرسة مهارات وجودة وأخلاق، وهذا يتطلب قيادات نزيهة تمنع المتاجرة بالنفوذ وإساءة استغلال المنصب واختلاس الممتلكات أو تبديدها وتحافظ على المال العام، ويتطلب قيادات معرفية تعتنق التغيير، والإصلاح وتستمع للتربويين والعلماء وتتفهم أهمية العقل والانفتاح على الثقافات العالمية.
هل هذا حلم مستحيل التحقيق في عراق اليوم؟ لربما يكون ضرباً من ضروب الخيال ما لم يتم القضاء على الفساد المستفحل في مفاصل التعليم. لذا لابد أولاً من التخلص من العوامل التي تعمل علي تغذية الفساد ومنها تركيز السلطة التربوية بيد صناع القرار وهم عملياً غير مسؤولين أمام المعلمين والطلبة وعامة الشعب، والصراع الداخلي على السلطة، وعدم وجود نظام فعال للمساءلة والمحاسبة، واحتقار حرية الرأي والرأي الآخر، والعجز المعلوماتي المتمثل في انعدام الشفافية في المؤسسات التربوية، وخصخصة قطاع التعليم بصورة غير معلنة والإلغاء التدريجي لمجانية التعليم في العراق، فضلاً عن عدم استخدام معايير الكفاءة والجودة في تعيين المسؤولين، واستخدام المحاباة والمحاصصة بدلاً من ذلك، وانخفاض رواتب المدرسين، والكلف الباهظة للمدارس الأهلية، وازدياد معدلات الدروس الخصوصية، وعدم ملائمة المرافق التعليمية وكفايتها، واكتظاظ الصفوف، والتغيرات المزاجية والأيديولوجية في المناهج وانعدام الترابط بين محتوياتها، وبيع الكتب المدرسية، بالإضافة الى غياب الرقابة الكافية للحد من الرشوة في مؤسسات التعليم. من هذا يتضح إن الحل الوحيد والعملي هو إعادة بناء التعليم مرة أخرى من خلال القضاء على الفساد أولاً، وتعزيز الاستقرار وإبعاد العناصر الطفيلية والاعتماد على الخبراء، وهذا طبعاً يتطلب أولاً الإسراع بتسمية وزير للتربية يتمتع بالمؤهلات العلمية والمهنية والنزاهة وبعيداً عن المحاصصة السياسية