لا شك لا يوجد للكرد عقل بيولوجي يميزه عن غيره من الأمم، لكننا نتجه بعنواننا هذا إلى المجازية في الكلام، بل والسطحية الدارجة بين الشعوب وبينهم الكرد، أثناء مناقشة القضايا العامة بل وحتى المصيرية. وبشكل عام فما يلقى به على العقل ليست في الواقع سوى مخلفات تعكس الضحالة المعرفية والتي تجعلنا سذج عند مواجهة الكوارث، والمعني هنا هي طرق تناولنا لقضايانا الذاتية والعامة، ومن بينها الخلافات التي بدأت تتأزم يوما بعد أخر، ومنها اللهجات-الوطنية، والدينية -القومية، والمضافة إليها في الفترة الأخيرة (المناطقية) ضمن أجزاء كردستان، أي بما معناه التوجه الحديث نحو تقسيم المقسم من كردستان، جغرافية وديمغرافية على الأسس الدينية والمذهبية واللهجات والمناطقية وغيرها:
1- كالتي برزت بين عفرين وكوباني والجزيرة في جنوب غربي كردستان، في السنوات الأخيرة، والمثارة بعد احتلال تركيا والتكفيريين من أشرار المعارضة لمنطقة عفرين.
2- ومثلها التي تجري بين سليمانية وهولير ومنذ عقود، والمتفاقمة في السنوات الأخيرة، بعد أن تنفسنا، كأمة كردستانية، الصعداء على أنها حلت بعد قيام النظام الفيدرالي.
3- والأعمق تأثيرا، ومؤثرا على مصير الأمة بكليتها، هو الخلاف الذي يحدث شرخا رهيبا بيننا على الخلفية الدينية ومن ثم المذهبية، والتي تنخر في الوجدان الكردي، وفي أصالته، وتاريخه، والإشكاليات المرافقة معها وبموجات متصاعدة، والتي لها جذور مأساوية، تستغلها الأنظمة الإقليمية الإسلامية، وخاصة المقتسمة لكردستان، وهدفهم الأول منها: القضاء على الديانة الأزداهية حيث الأصالة الكردية، ويريدونها أن تتم بيد الكردي نفسه.
4- وكذلك التمييز بين الكردي السني والشيعي أو العلوي أو من المذاهب الإسلامية الأخرى، والتي لا تقل شرخا عن المذكورة سابقا أو عن الخلفية المناطقية أو اللهجات أو الدينية.
وفي جميع هذه الكوارث القومية التي تحيط بالأمة، تقف أيادي خارجية، تخطط لها وبدقة متناهية، وبذهنية خبيثة، ونحن هنا نساهم وبفكرنا الساذج في خلق هذا الشرخ المرعب، ونهيأ لهم البيئة الملائمة لإنجاح ما يخططون له، بل وفي كثيره أصبحت شرائح من ضمن مجتمعنا الكردستاني أدوات سهلة بأيديهم، وعن طريقهم يستغلون العقل الكردي البسيط، أو كما ذكرنا سابقا كل ذلك بسبب الضحالة المعرفية، أو المعرفة الذاتية، والتي تسهل تفاقم الإشكاليات المذكورة، وسهولة خسارتنا لمكتسباتنا بنفس السرعة التي نحصل عليها.
عفرين:
كانت تثار سابقا بين حين وأخر، في جنوب غربي كردستان، بين القواعد الحزبية في عفرين، مسألة فيها الكثير من السذاجة، وهي نسبة الشخصيات القيادية ضمن الأحزاب، رغم معرفتهم أن معظم القيادات ورغم وطنيتهم لم يكونوا أكثر من أدوات خلقت وعينت، وبأوامر من المربعات الأمنية، لتسيير أمور الأخرين، قبل أن تقدم خدمات للمجتمع الكردي، ومن المؤسف أن هذه الشريحة المناطقية تناست حينها وهي تتناسى الأن إما بمخطط أو بإرشادات خارجية، أن:
1- الأحزاب التي كانت تنتقد، وهي بهذا الحجم القيمي والفكري والسياسي ستحمل كلا العيوب، ومنها ما كان يقال عنها، بالتحيز والمناطقية، علما أنهم كانوا أضعف من تكون لهم المقدرة على تصحيح سلبياتها أو التخلص منها.
2- مثلما تتناسى أو لا تدرك الشريحة المنادية بالمناطقية، أن المخططات التي عملت عليها الأعداء وبأساليب متعددة، في السابق للتعتيم على القضية الكردستانية، بشكل عام، لم تعد تجديها نفعا، وقد أصبحت كلاسيكية معروفة في واقع الإنترنيت والتطور الفكري الحضاري، فبدأوا باستخدامها أكثر حنكة وخباثة للطعن في القضية الكردستانية، وتمزيق المجتمع، وذلك بخلق حجج جديدة متنوعة، ومنها بث مفاهيم الاختلاف على المناطق، كالتي تدرج الأن على أن عفرين هي المحتلة وليست الجزيرة، والمتآذي هم أبناء منطقة عفرين، والتي تدمر هي بساتين عفرين، متناسين أن عفرين هي كردستان، والتي تقتل وتشرد وتدمر هي كردستان وزيتونها هي زيتون كردستان، وما يقال بين أبناء الأمة ليست مجاملة أو بيع وطنيات.
3- ولا نستبعد أن بين من يحركونها شريحة مبثوثة من قبل القوى الإقليمية أو أن الشريحة المدفوعة بها لبث هذا الشعار، تبحث عن الشريحة الكردية غير الواعية، والتي لا تعي أنها ملعوبة بها، ولا يستثنى أن القسم الأعظم من الإخوة في عفرين المنادون بالمناطقية هي ردة فعل على ما يعانونه من الحرمان في موارد رزقه، كإتلاف أشجار الزيتون والتي تحتاج إلى عقود من الزمن لإحيائه، إلى جانب سرقة إنتاجه بقوانين عشوائية كالنسب المفروضة دفعها للمنظمات العابثة بمنطقته، ولا ننسى المآسي والاعتداءات اليومية التي يلاقونه من المحتل.
4- لا تدرك المجموعات التي تجول في فكرها هذه القضايا والمنادية بها، أن القوى المقتسمة لكردستان، استخدموا ويستخدمون طرق متنوعة، من الكتابة إلى الإعلام إلى تكوين مراكز استراتيجية، لتوسيع الشرخ بين الحراك السياسي الكردي، وهم الأن على بعد خطوات لجر الحركة الثقافية إليها، لتتوسع الكارثة.
5- تتناسى الشريحة المندسة أن كردستان قوية بكليتها، أسما وجغرافية وديمغرافية، ولا قيمة لمنطقة بذاتها، مهما عظم شأنها، مثلما لا ثقل لدين أو مذهب أو لهجة أو لقومية بدون كردستان الكل الجامع للأديان واللهجات والمذاهب والقوميات، والمتكون من موزاييك جغرافي متنوع. ومهما قدمت المناطق بمفردها أو الأديان باسمها، والمدن بلهجاتها ولغاتها، من خدمات أو شخصيات اعتبارية ثقافية أو سياسية أو فنية، لن تطول زمن حضورهم بدون كردستانيتهم، المغني المشهور هو الذي يغني لكردستان وباسم كردستان، والسياسي لن يكون له قيمة اعتبارية داخلية أو خارجية إذا لم يكن حاملا راية كردستان، ومدافعا عن القضية كردستانيا، ومسنودا من الأمة بكليتها.
6- عندما يتم ذكر عفرين وسابقا كوباني، أو قامشلو الذابلة تحت مأساة الهجرة وضمور ماهيتها الكردية، لا تعني المزاودة أو بيع الوطنيات، بل تعكس الشعور بالقهر الداخلي، وهي أن جزء من كردستان تتأذى ووطن مجروح يتألم أبناءه.
سليمانية وهولير:
الأفة ذاتها أثيرت في السابق وبعمق بين السليمانية وهولير، وهي لا تزال تنتقل إلى مناطق أخرى من الإقليم، وهناك من كان يقف ورائها، ويحفزها لتتحول من خلاف في اللهجات إلى صراع حزبي، وفي الفترة الأخيرة نقلت وبقدرة القوى الإقليمية، أو كما ذكرنا في مقالنا السابق وبأوامر من أرباب الأحزاب الكردية، إلى صراع مناطقي مصيري، وهي أرهب من عفرين، ومخلفاتها بينت كم هي كارثية على مجمل كردستان، وهذه القضية تحتاج إلى دراسة واسعة وشاملة للإحاطة بها. ونأمل أن ينتبه الإخوة في عفرين الحاملين أو المحاولين حمل الراية المشكوكة بإمرها والتي تشكل خطرا على مستقبل كردستان، الانتباه للتجارب الكردستانية السابقة وأخذ العبر منها.
شنكال:
هذه من ضمن القضايا المصيرية لامة عانت الويلات على مر القرون الماضية، وهي نتيجة العقل الكردي، أو الوعي الكردي، وسذاجة المفاهيم المستخدمة في حل الإشكاليات التي تظهر أثناء الصراع مع الأعداء، وهي ذاتها التي كانت تنبش فيها السلطات الإسلامية السابقة، والتي أرادت تمزيق الكرد على الخلفية الدينية والمذهبية، قبل أن تتلقفها الأنظمة العنصرية المقتسمة لكردستان، فتم ترويج مفهومي، الإيزيديون والمسلمون، ونشر على أثرها تاريخ مفبرك، لإسناد هذا المفهوم المرعب قوميا ودينيا، فروجت أن بعض القبائل العربية اعتنقت الإيزيدية، وذكرت أسماء بعضهم في كتب التاريخ المحرف، كمواطنين في مدينة سنجار ومحيطها، المدينة أو أبناء هذه المنطقة العريقة في التاريخ، تعتبر الأكثر ترويجا في الفترة الأخيرة لهذا المفهوم المخالف للمنطق والتاريخ، ويدفع بهم لفصل الإيزيديين عن قوميتهم الكردية، أو قطع جذور القومية الكردية عن أصلها، على منحيين، إما بعروبة الإيزيديين من قبل أحفاد القبائل العربية المعتنقة الإيزيدية فيما لو أسلمنا جدلاً أنها تمت، أو كما يقال الإيزيدية هي القومية والديانة.
ومن بين القبائل المدعية أنها اعتنقت الإيزيدية، هي قبيلة التغلبيين وقيس عيلان، وعقيل وطي وزبيد وبنو يعقوب والعبيد والشمر، وروجت لهذه تكملة تاريخية مشوهة وهي أن المدرسة القفطية في شنكال، تابعة لبطن من بطون العدنانية، ومن المعروف عند أبن الأثير والمسعودي وأبن حوقل وياقوت الحموي والسمعاني، أن القبائل التغلبية لم تتجاوز منطقة الأنبار إلا مع الغزوات الإسلامية، وبشكل خاص في الموجات التي تمت في عهد الخلفاء الأمويين، وقد كتبنا في هذا المجال حلقات تحت عنوان (مصداقية الباحث العربي، وغيرها) ومعظم هؤلاء المؤرخين يذكرون أن الكرد هم كانوا في قلب سنجار، الاسم المعرب من شنكال، دون تمييز بين ديانتهم، الذين حافظوا على الإيزيدية أو الذين اعتنقوا الإسلام عنوة أو قناعة، أو غيرهما من الديانات، باستثناء ذكر المسحيين وهم السريان أو الأراميين أو الكلدانيين، وهؤلاء آثار كنائسهم باقية حتى الأن رغم الدمار الذي ألحقت بهم الغزوات الإسلامية المتعددة، مثلما دمرت المقدسات الإيزيدية والزرادشتية وغيرها. ويأتي المؤرخون على ذكر أسماء البعض من قبائل الكرد الإيزيديين في المنطقة، الزرزاريين، والتي منها يأتي القاضي والمؤرخ الكردي المشهور (ابن خلكان البرمكي الأربيلي) وبيت ناصو، والهلالية، والموسقورة، والخوركان والجوانا، وجميعها عشائر إيزيدية، ووصفوا بالكرد. ويقال إن (سعيد ابن جبير الأسدي) (46-95هـ) بعدما زار سنجار في القرن السادس الهجري قال عن أكرادها (أبدي حذري وتخوفي منهم، وأوضح عجز السلاطين عن إسكاتهم، ورد هجماتهم ضد الدولة والتجار والحجاج) وفي الواقع كان نسبة المسلمين الكرد حينها في سنجار شبه معدومة أو نسبة جدا قليلة، وإلا فما كان منهم خوف على الحجاج على الأقل.
ولا يعقل منطقيا حدوث العكس، أمام الاجتياح الإسلامي والمجازر التي كانت تتم لإكراه الكرد الأزداهيين والمزدكيين والزرادشتيين والمانويين والمسيحيين واليهود على اعتناق الإسلام، وهذه خدعة تاريخية يراد منها الشر للكرد الذين احتفظوا بديانتهم الأصلية، لفصلهم عن الأصل أو تمييع وتضيع منابعهم التاريخية، أو عزل جزء من مجتمعهم عن الكل، لتسهل لهم التحكم بهم، وتسييرهم حسب رغباتهم، ولا نستبعد أن هذه التلفيقات تمت في القرن الماضي على يد السلطات العروبية، وكما يقال أن لبعثيي صدام ومراكزه الأمنية دور رهيب في هذه المؤامرة، وقد تم تجنيد العشرات من أبناء المنطقة ذاتها.
أما عن القبائل العربية الأخرى والمدعية أنها أو مجموعات منها تركت الإسلام واعتنقت الإيزيدية، فهي قبائل حديثة العهد في المنطقة، واعتناقهم الإيزيدية في المراحل التي كانت الفرمانات متتالية على المجتمع الإيزيدي على خلفيتهم الدينية، سيكون من غير المعقول أن يكون هناك اعتناق عكسي. وعلى الأغلب، وهنا أعتذر من الإخوة الإيزيديين المختصين بالمسائلة الدينية التاريخية، أن الإيزيدية وخاصة في المرحلة اللاحقة بعد الشيخ عدي بن مسافر أصبحت ديانة مغلقة على ذاتها، لا تقبل الاعتناق الخارجي، ولربما هذه كانت كارثة بحق الشعب الكردي عامة، لا نستبعد أنها تمت بحنكة لتقليص متبعي الديانة مع الزمن، فلو سمح لاعتنقها ثانية شرائح عديدة من الكرد المسلمين، والانتماء إليها يتم بالوراثة، وهي في هذا أشد صرامة من اليهودية والعلوية، فنرى أن اليهودية رغم صرامتها، هناك يهودي أسود وأبيض، روسي وألماني، رغم ما يقال عن الهجرات لكن هذا لا يخفي الاختلاف العرقي في الديانة. وعلى ما نظن أن الإيزيدية تعمقت في باطنيتها في العصور التي تزايدت عليهم الغزوات الإسلامية، وخاصة عندما كانت شنكال مدينة مزدهرة وتحت سيطرة الحكام المسلمين منذ بدايات الخلافة العباسية، وحكم الأيوبيين. ومن الأهمية هنا الإشادة بمقولة (عبد الكريم السمعاني المزوري) والمتوفي عام 562هـ، والواردة في كتابه (الأنساب) عن العلاقة بين مدينتي سنجار وآمد، رغم قربها من الخيال بل وحتى من الخرافة وعدم الدقة التاريخية، لكن المفهوم الدارج بين المؤرخين، تحدد الهوية الكردية من خلال علاقتهما، فيقول "وسميت سنجار باسم بانيها سنجار بن مالك بن دعر وهو أخو آمد الذي بنى آمد".