كلّ مَن يعيش في سوريا وغربي كوردستان خائِن. بأشكال وأساليب مختلفة ومتخلّفة. فهناك مَن يخون ذاته، أخاه، أخته، والديه، صديقه، حبيبته، جاره، بمَن فيهم أنا، أنا الخائن الأكبر والأعظم؛ وهناك مَن يخون وطنه، ويتّهم الآخرين بالخيانة والعمالة. إن الكلام عن الخيانة لا ينتهي كوردياً، وكذلك عربياً وعالمياً، ووصف الخائنين مزدحم بمفردات اللغة ولهجاتها، أتساءل: "لماذا نخون؟ ولماذا نخوّن غيرنا؟".
يعيش غربي كوردستان – المحتلّ سورياً – ومنذ عام 2011 في دوّامة الجدل المعقّد والعقل العقيم بين الأحزاب الكوردية التقليدية، التي لم تنتج سوى التحزّب والمحاصصة والمناطقیة والفساد الفكري والعشائرية والمحسوبیة والأهم رفضت إسقاط الأصنام، ففي كلّ اجتماعي حزبي نصف غيرنا بالخونة والقتلة، ونصف أنفسنا بالرجال المخلصين، وأيضاً العكس لدى مَن وصفناهم بتلك التهم؛ في المظاهرات والاحتجاجات والندوات والمحاضرات والأمسيات.. وفي الشوارع والمجالس والأسواق نتهم ونخوّن رافعي الأعلام والشعارات والشخصيات بنظريات المؤامرة والممانعة، في كلّ حدث إخباري أو تصريح إعلامي أو بيان سياسي أو معركة نستعدّ نفسياً وذهنياً لنفضح بعضنا بأبشع أنواع وأشكال القمامات.
لماذا نحن – الشعب الكوردي في غربي كوردستان – نخون بعضنا البعض؟ ألأجل السياسة والسياسيين، أم لأجل علم كوردستان أم لمَن ينادي الكوردايتي ويجعلها فعلاً قومياً على أرض كوردستان؟ لماذا نضحك على شعبنا بمبادئ الديمقراطية والحرّية والمدنية، ونطبّقها نظرياً لا عملياً؟ علينا أن ندرك جيّداً أن ساسّة وقادة الأحزاب في غربي كوردستان يتصارعون في السرّ ويتفقون وينفقون في العلن، أعداء على الوسائل الإعلامية أصدقاء في الولائم السياسية والاقتصادية، يعادون محتلّينا أمام الشعب ويوقّعون الاتفاقيات معهم على حساب شهداءنا، هذه حقيقة علينا أن ندركها جيّداً، ونعمل على تغييرها أو تعديلها أو إنهاءها.
"الأوجلانيون والبارزانيون" كان فيلماً سياسياً حزبياً قصيراً، بات اليوم مسلسلاً طويلاً، له أجزاء وفصول خطيرة وكارثية، كلّ حلقة تحكي حكاية، وكلّ حكاية فيها ألف شهيد وشهيد، فيها ألف عبيد وعبيد، فيها ألف خائن وخائن وفيها ألف مناضل ومناضل، فمَن السبب يا تُرى؟ مَن الضحية؟ مَن يخسر؟ مَن يتشرّد؟ مَن يدفع الثمن؟ لا أحد يتحمّل سوى الشعب، فالفرعون أصبح فرعوناً لأنه لم يجد مَن يصدّه.
"أُكـلتُ يومَ أكلَ الثورَ الأبيض!". الكثيرون منّا سمع هذا المثل المأخوذ من قصّة في كتاب "كليلة ودمنة"، التي تتلخّص في أن ذئباً وجدَ قطيعاً مكوّناً من ثلاثة ثيران؛ أسود وأحمر وأبيض اللون، فأراد الهجوم عليهم؛ فصدّوه معاً وطردوه من منطقتهم، فذهب الذئب وفكّر بطريقة ليصطاد هذه الثيران، فقرّر الذهاب إلى الثورين الأحمر والأسود، وقال لهما: "لا خلاف لي معكما، وإنّما أنتم أصدقائي، وأنا أريد فقط أن آكل الثور الأبيض، كي لا أموت جوعاً، أنتم تعرفون أنني أستطيع هزيمتكم، لكنني لا أريدكما أنتما، بل أريده فقط".
فكّر الثوران كثيراً؛ ودخل الشكّ في نفوسهما، فقالا لبعضهما: "الذئب على حقّ، سنسمح له بأكل الثور الأبيض". فافترس الذئب الثور الأبيض، وقضى ليالي جميلة شبعان فرحاً بصيده، ومرّت الأيام، فشعر بالجوع، فعاد إليهما وحاول الهجوم فصدّاه معاً ومنعاه، فاستخدم مجدّداً الحيلة القديمة، فنادى الثور الأسود وقال له: "لماذا هاجمتني، وأنا لم أقصد سوى الثور الأحمر؟!"، ردّ عليه الثور الأسود: "أنت قلت هذا عند أكل الثور الأبيض!"، فردّ الذئب: "ويحكَ! أنت تعرف قوّتي، فأنا قادر على هزيمتكما معاً، لكنني لم أشأ أن أخبره بأنني لا أحبّه، كي لا يعارض اتفاقنا السابق"، فكّر الثور الأسود قليلاً ووافق بسبب خوفه وحبّه للراحة.
في اليوم التالي اصطاد الذئب الثور الأحمر، وعاش ليالي جديدة وهو شبعان. مرّت الأيام وعاد وجاع، فهاجم مباشرة الثور الأسود، وعندما اقترب من قتله صرخ الأسود: "أُكلتُ يومَ أكلَ الثورَ الأبيض"، احتار الذئب فرفع يده عنه وقال: "لماذا لم تقلْ الثور الأحمر؟ فعندما أكلته أصبحت وحيداً، وليس عندما أكلت الثور الأبيض!!"، فقال له الثور الأسود: "لأنني منذ ذلك الحين تنازلت عن المبدأ، الذي يحمينا معاً، ومَن يتنازل مرّة يتنازل كلّ مرّة، فعندما أعطيت الموافقة على أكل الثور الأبيض أعطيتك الموافقة على أكلي".
تتمثّل هذه القصّة أمام عينيّ كلّ يوم، مع الأحداث الكوردية في غربي كوردستان التي بدأت منذ اغتيال الشهيد الكوردي "مشعل التمو"، الذي اغتيل بأيدينا، وبتخطيط من عقول أعدائنا، فالثورة على الديكتاتورية والحرّية من الديكتاتور بدل أن تحمينا وتحقّق لنا الأمن والسلام والازدهار التعليمي والاقتصادي من جهة، وتكون سلاحاً لمقاومة وتصدّي أيّ ديكتاتور يتجبّر من جهة أخرى، باتت ذئباً، كالذئب الذي يتفرّج ويتقلّب على جوانبه من الضحك، فيقول في نفسه "ما أغباهم! وما أذكاني! سمحت لهم بامتلاك حزمة عشب، ليذبحوا بعضهم من أجلها، ومَن يبقى منهم فسيكون من السهل أكله".
فمَن كان يتخيّل في يوم من الأيّام أن يصبح هذا حالنا؟ مَن كان يتخيّل أن نتّهم بعضنا البعض بالخيانة والعمالة – زوراً وبُهتاناً – عندما نختلف ونتصارع على أيّ حدث صغير أو كبير، ثم نتصافح ونتعانق ونسمّي بعضنا بالأخوة والأصدقاء عندما نصطلح، ثم نعود ونختلف مجدّداً ونتّهم ونقذف أنفسنا على جبهات الشتيمة والتخوين.. الخ
مَن كان يتخيّل أن يخوّن الأخ أخيه، ويتّهمه بالزندقة والعمالة، مَن كان يتخيّل بعد أن كنّا مثالاً للشعوب في الصمود والتضحية والنضال نصبح كالثيران المتناحرة، ونترك الذئب يضحك علينا، وينتظر حتى ننتهي من بعضنا البعض، فينقضّ على ما تبقّى من هذا الشعب، ثم ننتظر من العالم – المُتاجِر والخائن – أن يقف معنا، ونحمّله مسؤولية ما يحدث في عفرين من مجازر وانتهاكات وتهجير قسري على أيدي مَن ادّعوا الثورة والحرّية، وأيضاً كوباني من تخوين وخطف واعتقال ومُتاجرة وفساد ونفي واغتيال.
ومع ذلك، وبينما الذئب في مرحلة الانقضاض على ما تبقّى منّا، نتفاجئ أنه يوجد بيننا مَن بقي لديه بعض القوّة والشجاعة، والمفاجأة الطامّة أنه وفي هذه الظروف لا زال كلّ ثور (طرف) يوجّه ما لديه للثور (الطرف) الآخر، حتى أننا لم ندرك الحقّ ونحن في المرحلة التي وصل إليها الثور الأسود حين قال آخر ما قاله، فيخرج قيادي من هذا الفريق ويقول أنه كانت هناك محاولة اغتيال لزميله، ويتهم بها قطيعاً كاملاً من الطرف الآخر، وبالتالي يجب القضاء على ما تبقّى من الطرف الآخر، فيخرج قياديان من الفريق الآخر ليردّوا عليه، والذئب (عدوّ الكورد اللدود) يضحك بقوّة أكثر هذه المرّة، لكنه لا يتفرّج بل يضحك وهو يلتهم الشعب على نار هادئة.
ألا سحقاً لكلّ القيادات التي لا تبحث لنفسها إلا عن الكرسي "هل له قيمة؟" مهما كان الثمن من دماء أو أشلاء أو تشرّد وتغيير للجغرافية البشرية!! ألا سحقاً لمَن أدمنوا القتل والكذب والسرقة والفساد والتحزّب باسم الدين، أو باسم الوطنية، أو باسم الشعب والقضية!! والدين والوطنية والشعب والقضية منهم بَرَاء، فإن كنتم قادة حقيقيون فعليكم الرجوع إلى حضن الوطن وانتشال هموم الشعب من الشعب، الذي يتّسع للجميع مهما كان ضيّقاً.
لا أعتقد أنه يوجد امرئ سوي، لا يحبّ وطنه، ولا يهاب في الدفاع عنه في أوقات الشدّة، غير أن هناك في كلّ زمان ومكان مَن يرضون لأنفسهم الإقدام على خيانة وطنهم وأمّتهم وشعبهم وإراقة الدماء وتلويث الماء ونشر الداء، ويبيعون ضمائرهم وعقولهم وتاريخهم الشخصي، مقابل حفنة من النقود الصفراء أو الخضراء، قصر هنا ومَتجر هناك، هذا إن كان لهم تاريخ وشخصية.
بالعودة لقصّة الذئب والثيران الثلاثة، ومقارنتها بمَن يخونون ويخوّنون، بمَن يَتفقون ويُنفقون، سنصل لقناعة تامّة بأن الغالبية منّا يعيشون بمبدأ "أنا ومن بعدي الطوفان"، ويبحثون عن مصالحهم وسلامتهم فقط، وينسون أن الطوفان لا يرحم أحداً، فالذي يضع يده في يد أعداءه فسيذكره التاريخ دائماً، سيذكره خائناً وعبداً يُؤتمر من الذئاب، أمّا مَن يخوّن طولاً وعرضاً، على أنه ينتقد ويبدي رأيه، فلن يكون يوماً من المُفيدين والمستفيدين، بل الخراب الجسدي والفوضى الروحية والتشتّت العقلي سيبقى مستمرّاً فيه.