كان الكاتب الفرنسي رومان رولان أول من عرف الشعوب الاوربية بغاندي، وقد وضعه في منزلة مسيح العصر الذي سيعيد القيم الروحية لحضارتنا المعاصرة، تلك القيم التي بددها النزوع المادي للحداثة، وكان تولستوي قد رأى أن غاندي خير من يجسد فلسفته الانسانوية، فلم ينقطع عن التراسل والتشاور معه حتى وفاته، كما ان النجم الألمع في سماء العلم البرت اينشتاين قد عبر عن إجلاله لشخصية غاندي بقوله " لأجيال ستأتي من الصعب ان نتصور ان رجلا بعظمته ستطأ قدماه كوكبنا". أما الشاعر العظيم طاغور فقد خلع عليه لقب المهاتما (الروح العظمية) والذي سيلازم اسمه الى الأبد.
عكف مارتن لوثر كنغ على قراءة غاندي فاستلهم من أفكاره منهاجاً لحركته السلمية في الدفاع عن الحقوق المدنية للسود في اميركا، وهو لم يقابله شخصياً، إلا انه قام بزيارة للهند بدعوة من جواهر لآل نهرو فعبر عن إجلاله لغاندي قائلاً:" زرت بلداناً عدة بغرض العمل أو السياحة إلا انني هنا لأداء فريضة الحج.
حظي غاندي بمنزلة فريدة لدى العلماء والادباء والعامة على حد سواء وفي كل أرجاء المعمورة، فقد كان فلاحو الهند يجمعون التراب المتناثر من نعليه تبركا، كما انه بقي حاضراً ومصدر إلهام في ذاكرة الشعوب والجماعات التواقة للانعتاق من حركة زنوج أميركا الى احتجاجات غزة والتظاهرات في جنوب العراق، مما يجعل إعادة قراءة سيرته وأفكاره من زاوية نقدية ضرباً من المجازفة.
يعود رواج وتبني الاسلوب السلمي في النضال للتحرر ونيل الحقوق الى إختلال التوازن بين قدرات الطبقات الحاكمة التي تغولت اجهزتها القمعية بحكم تكدس الثروة لديها وتحكمها بمفاتيح العلم والتكنولوجيا، فجاءت تجربة غاندي الثرية وفكره الانساني لتفتح آفاقاً جديدة لابتكار أساليب سلمية في كفاح الشعوب والجماعات المضطهده (بفتح الهاء) لانحسار خياراتها العملية بسبب انعدام توازن القوة، و أثبتت الطرق السلمية نجاحاً منقطع النظير في معظم التجارب النضالية، الا أن هناك طرفاً آخر في المعادلة لم تتم دراسته أو حتى الاشارة اليه - بحدود معرفتي - وهو أن الطبقات الحاكمة لم تتردد في الاشادة بالغاندية وأساليب المقاومة السلمية لشيطنة أي اسلوب نضالي آخر يمكن أن يهدد تفوق قوتها السلطوية أو يضعفها، حتى أصبح إطلاق طائرات ورقية في مقاومة الاحتلال أو رمي الحجارة أو اشعال إطارات السيارات أعمالا إرهابيه تجري ادانتها بشدة على شاشات التلفزيون! !!، بل وجعلت - عبر ماكنتها الاعلامية والثقافية العملاقة - إدانة تلك الاساليب(حتى في حالة الدفاع عن النفس) جزءاً من منظومة القيم الاخلاقية في السياسة المعاصرة وشرطاً للاعتدال والتحضر، وكثيراً ما يبتلع الطعم اولئك المفتونون بما يسمى بالوسطية التوفيقية.
الصيغة الشعبية الشائعة لنهج غاندي تتلخص بالمقاومة السلمية بكل أشكالها من تظاهرات واعتصامات وعصيان مدني ومقاطعة المنتوجات البريطانية والعيش بحدود الاكتفاء الذاتي، الأمر الذي يستفز سلطات الاحتلال فتلجأ الى العنف المفرط مما يكشف عن زيف ادعاءاتها بالقيم الحضارية والانسانية ويثير الرأي العام ضد ممارساتها الوحشية فيجبرها على الرضوخ لمطالب الشعب الهندي، فهل تمثل تلك الخلاصة حقاً فلسفة ونهج غاندي أم هي صيغة مبسطة ارادت لها حركات التحرر أن تكون قابلة للولوج الى عقول ووجدان الناس فتصبح قوة الهام فعالة في نضالها السلمي؟..
يدعى نهج غاندي بالساتياغراها وتعني الكلمة(قوة الحقيقة) وهو لا يحبذ اختزالها بتعابير النضال السلمي أو اللاعنف، فالساتياغراها رحلة طويلة من جهاد النفس الذي يهدف الى تحرير الروح من أسر الجسد واغراءاته ونزعاته (المرضية) كالخوف من الموت و الطمع بملذات الحياة والغضب وحب الانتقام والشعور بالكراهية وما الى ذلك، وبهذا ترتقي الروح الى عالم النرفانا. يقول لنا غاندي أن اللاعنف لا يكفي دون تلك الرحلة الروحية الشاقة، فالفأر لا يجابه القط بالعنف لكونه ضعيفاً وجباناً، إلا انه معذور، فردود أفعاله تحكمها غريزته كحيوان، أما الانسان فانه مخير وليس مسيرا، و اختياره طريق اللاعنف يجب ان لا يكون لعجزه عن ممارسة العنف بل لشجاعته وايمانه بقوة الحقيقة، على أن لا تراوده لحظة واحدة يشعر فيها بالخوف من الموت، و يبدو أن هذا ما كان يرمي اليه بقوله "ان لم تكن قادراً على القتل فلا يمكن أن تكون مسالماً بل مستسلماً". ويشدد غاندي على أهمية التجرد من(عقدة) الخوف من الموت حتى تشعر أن لا قيمة للحياة بنظره سوى كونها معبراً وفرصة للموت من أجل ارتقاء الروح الى عالم الخلود أو عودتها بالتناسخ أكثر تطهراً، فهو يؤنب الهنود بقوله لماذا تخافون الموت على أطفالكم، وفي كل عائلة عدد كبير منهم وإن في موتهم خلاص أبدي لأرواحهم. ويستكمل المهاتما اشتراطات الساتياغراها، عليك أن لا تشعر بالغضب حتى ازاء من ظلمك، ولا أن تكن له الكراهية أو مجرد الشعور بالانتقام، فشعورك هذا يجعلك مشروع ظالم مؤجل الى حين تتوفر لك القدرة على الظلم، كما ان احقاق حقوقك المنتهكة يجب ان لا يكون بالاكراه، فليس الغرض من الساتياغراها إجبار الخصم بل تشذيب القوى الشريرة التي لوثت روحه باستثمار قوة الحقيقة. اذن فالمقاطعة والعصيان المدني وغيرها من المقاومة السلمية لا ترمي الى الضغط على المستعمر واجباره على الاستجابة لمطالب الشعب بل لتحفيزه على التأمل والتجرد من شروره الغريبة والطارئة على الطبيعة الانسانية!! (كان غاندي قد بعث برسالة الى هتلر يحدوه أمل في ان يستحث فيه روح الانسان)، وقد بلغت النزعة المثالية لدى غاندي ذروتها في موقفه من ابادة هتلر لليهود في الهولوكوست، فهو لا يلقي باللوم على الجيش النازي فقط، بل ينتقد من هرب او إختفى من اليهود، كان عليهم بنظره ان يقفوا صفاً واحداً لا يهاب الموت، ويزيد بما معناه: نعم سيسقط منهم عشرات الآلاف من الضحايا ولكن لا يعقل أن تستمر وحشية النازيين وهم يخوضون في أرض مليئة بالجثث!!!. وفي تقييمه لانتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية ينتقد مواجهة العنف النازي بعنف مماثل انتصر فيه على الشر النازي شرّ أشد جبروتا وضراوة منه. ربما يكون وصفه للنتيجة صائباً ولكن هل كان للشعوب التي احتلت اوطانها جيوش النازية خيار غير المقاومة المسلحة؟.
تنسحب تلك الرؤية المثالية الى معالجته لاشكالية العلاقة بين العامل والرأسمالي، ففي منظوره لا يحكم العلاقة صراع طبقي، بل يجب ان تبنى على أساس من التحاور والتفاهم المشترك، وعلى العمال ان ينظموا انفسهم لا لاكراه الرأسمالي على الاستجابة لمطالبهم، فالأكراه صيغة من صيغ العنف، بل لاعانته على تشذيب أنانيته واستنهاض قيم الخير فيه، ليتسنى له تفهم مطالب عماله و الاحساس بمعاناتهم.
ربما تعود النزعة المثالية لغاندي لشدة ايمانه الديني منذ الطفولة، الأمر الذي عبر بشأنه تلميذه ورفيق نضاله نهرو عن امتعاضه في عدة مناسبات مشيراً الى اغراق معلمه السياسة بالمفاهيم الدينية. على سبيل المثال ينكر غاندي على ملحدي الهند وطنيتهم، فالوطنية قيمة أخلاقية لا يتمتع بها من ينكر وجود الاله الذي تتجسد فيه الحقيقة وكل القيم الانسانية والاخلاقية، بل الرب هو الحقيقة حسب تعبيره.
سوف تتناول الحلقة القادمة سيرة غاندي والمحطات التي تركت بصماتها على نمط تفكيره واستغراقه في المفاهيم الدينية المثالية، وتستعرض ايضاً التناقضات في مواقفه والناشئة عن تقاطع رؤاه المثالية مع تعقيدات الواقع العملي. ....يتبع
قصي الصافي
المراجع:
1- What Gandhi Says, Norman G. Finkelstein, 2015
2- Gandhi and Churchill by Arthur Herman. Published by Bantam 2008
33- قصة تجاربي مع الحقيقة, موهاندس غاندي, دار الملايين 1978
4 -سلامة الروح وراحة الجسد, موهانداس غاندي. ترجمة عبد الرزاق مليح, دار الفرات لبنان 2015