مدينة الموصل، ثاني أكبر مدن العراق بعد العاصمة بغداد، كانت في تسعينيات القرن الماضي المدينة الأصلح والمكان الأنسب والأجمل للسياحة والاصطياف وقضاء إجازة ترويحية في ربوعها، حيث الفنادق الفخمة والمناطق الأثرية والسياحية والأسواق والمروج الخضراء وغيرها، خاصةً بعد أن بدأ الحصار الظالم على العراق يهصر الناس هصرًا، والوضع الاقتصادي يزداد تأزمًا، والحياة العامة والاجتماعية تنحدر باتجاه سلبي. وليس بمقدور أي مواطن السفر إلى خارج البلد، لأنها عملية باهضة الثمن، وصعبة التحقّق، ومحدّدة على فئات عديدة.
في الأول من تشرين الأول من عام 1993، وبعد زواجي بيومين حزمت حقائبي وهيئتُ نفسي للسفر إلى الموصل لقضاء شهر العسل في هذه المدينة.
انطلقت بسيارتي الخاصة صباحًا في يوم جميل بارد وممطر، على غير العادة من معدلاتها في هذه الوقت من كل سنة، فوصلت أطراف المدينة بعد مسيرة متأنّية استغرقت أكثر من أربع ساعات ونصف، توجهت منها مباشرة إلى أفخم فنادق المدينة، -فندق نينوى أوبروي-المحطة الأولى من رحلتي العسلية.
كنت قبل سفري بفترة وجيزة، قد استعلمتُ من الأصدقاء والأقارب وأهل هذه المدينة عن أهم المرافق السياحية في الموصل وأطرافها، والأماكن التي يفضّل زيارتها ويُنصح بقضاء وقت فيها. فارشدوني إلى مرابع عديدة ومناسبة، أهمّها منطقة الغابات والشلالات، وحمام العليل، ومواقع أثرية مثل المئذنة وجامع النبي يونس وجامع النبي شيت، ودير مار بهنام.
وهناك موقع مهم نُصحت بزيارته إلزامًا من بين جميع المواقع، هو ذلك الدير الذي يقع شمال شرق مدينة الموصل ويبعد عنها بمسافة 30كم ويتبع قضاء بعشيقة، يُطلق عليه (دير مار متّي) أو (دير الشيخ متّي)، وهو من الأماكن التاريخية والمزارات المقدسة للتبرك فيه لدى المكوّن المسيحي/ السريان الأرثوذكس، بصورة خاصة، وكذلك السائحين المحليين والأجانب بصورة عامة، ويقصده المصطافون من جميع أطراف العراق وحتى من خارجه، ومن كل الأديان والطوائف.
الدّير يعتبر من أقدم الكنائس في العالم، أسسه القديس مار متّي الناسك، أواخر القرن الرابع الميلادي، أي أن عمر هذا البناء الآن تجاوز 1600 سنة، لكنه تعرّض إلى هجمات ودمار كامل خلال حقب سابقة من تاريخه على يد الفرس والمغول، ولهذا القديس وهذا الدّير مكانة تاريخية في الكتب والمراجع الدينية ويعتبر مصدراً مهماً في حقل الدراسات المسيحية الشرقية.
هو بناء كبير يتألف من ثلاثة طوابق تلحق به كنيستين، ويقع على سفح جبل يسمى (مقلوب) بارتفاع 2400م عن سطح البحر، وأمامه ساحة كبيرة لوقوف السيارات والحافلات وتجمّع الزائرين أثناء المناسبات الدينية. ويشرف الّدير على سهل تملأه أزهار السندس الخلّابة وتغطّيه في فصل الربيع كسجادة خضراء كبيرة، وهو بالفعل من أجمل المواقع الأثرية والسياحية في المدينة يتوجّب زائر المدينة معاينته والاصطياف فيه.
تذكرتُ تفاصيل رحلتي هذه حينما هزّني مطلع عام 2015، خبر تفجير دير مار بهنام، وشقيقته سارة، في مدينة الموصل أيضاً-الذي يعود تاريخه إلى القرن الرابع الميلادي-بفعل أيادي داعش الشريرة وعقليتهم المريضة، وساووه بالأرض، فكان محو هذا الدير المقدّس من الوجود خسارة تاريخية وأرث ديني وسياحي كبير للعراق. بيمنا خلُصَ دير مار متّي، من هذا العبث اللاأخلاقي، بل جدد بناءه وعُمّر … ولله الحمد.
في صباح اليوم التالي من هذه السَفرة شدّدنا الرحال إلى دير مار متّي. بعد رحلة صعود ثقيلة للجبل بالسيارة حتى وصلنا إلى أرض منبسطة للتوقف القليل، ثم بدأنا مرحلة ثانية من صعود مضني للجبل وأيضاً بالسيارة إلى أن أدركنا أسوار الدّير وبابه.
كان على الزائر في السابق ترِك دابّته أو سيارته عند هذه النقطة والترجّل منها، ثمَّ التسلق والصعود بسلّم متعرّج مرصوف بالحجر في أثنين وثلاثين استدارة وبطول كيلومتر واحد في صعود شبه عمودي حتى تصل الدّير، وبالتأكيد إن من كان يصعده في حينها لا بد أنه سيصل إلى باب الدّير لاهثاً يغلب عليه التعب والإعياء الشديدين…!
عند باب الدّير قرأت على لوحة صغيرة دُكت بجانب الباب كُتبَ عليها (هذا المكان المقدس، للعبادة وليس للاصطياف). وقفت بُرهة أمام الباب متأملًا هذه اللوحة، وأيقنت إنها مجرد لوحة تنبيهية، القصد منها توخّي الهدوء والسكينة في هذا المكان الروحاني، وما لفت انتباهي أيضاً في حينها هو هدوء المكان وخلوّه من أي زائر سواي، حيث ينحصر أعداد الزائرين إلى الصفر تقريباً في هذا الوقت من السنة.
بجانب باب الدّير وقبل الدخول فيه، ثمّة كهف صغير، ناخر في الجبل غير عميق، وشكله خلّاب يسر الناظر إليه، يستطيع الزائر الجلوس والراحة، والتقاط الصور التذكارية بعد عناء من طلوع الجبل، وهذا ما فعلته.
دخلنا من باب الدّير الرئيسية الصغيرة نسبيًا إلى باحة كبيرة أمامه-كانت تلك أول زيارة لي لمثل هكذا مكان-فاستقبلنا الشّمّاس (معاون الكاهن)، ومساعده بالترحاب والإكرام. شعرتُ أن الشّماس-الذي تجاوز الخمسين من العمر-ومساعده قد تهلّلت أساريره وانبسطا لتلك الزيارة، وكأنها زيارة تاريخية أو على الأقل للتسلية وقضاء وقت مع زائرين جُدد في مكان غير مأهول من أي زائر في مثل هكذا أيام من السنة وفي هذا الجو البارد، حيث الصمت والهدوء يطبق تمامًا على المبنى الكبير.
رافقنا الشّماس، في جولة سياحية في أروقة الدّير ورِحابه المقدسة، مبدياً اهتماماً ملحوظاً تجاهي في الشرح والإيجاز المفيد عن مكانته الدينية، واهتمام الرهبان والقساوسة عبر التاريخ بهذا الموقع، وأن القديس مار متّي -الذي عاش قرابة التسعين عاماً-له من الكرامات الكثيرة وصُنعْ المعجزات الشي الكثير وخاصة في شفاء الناس. أهمها المعجزة التي تمت على يده، شفاء (سارة) ابنة سنحاريب حاكم ولاية آثور، إحدى ولايات الدولة الفارسية آنذاك.
بعدها قمنا بالتجول في الدّير بطوابقه الثلاث الواسعة وأغلبها عبارة عن غرف متوسطة الحجم فيها ثلاثة أسرة مفروشة وكأنها غرف فندق، مجهّزة للزائرين الراغبين في التعبّد والمبيت لعدة أيام. في إحدى الغرف والتي تسمى (المذبح) شاهدنا المكان الذي تقام فيه الصلاة وتقديم القرابين والهبات والطقوس الدينية، وفي غرفة أخرى هناك أضرحة لرهبان وقساوسة تُوفوا في أزمنة مختلفة ومن بينهم القس مار متّي نفسه، وبدأ الشّماس يحدثنا عن صاحب كل ضريح ومكانته الدينية ومتى توفي.
وفي غرفة مجاورة أخرى استوقفتني مشاهدة غريبة حيث لفت انتباهي في إحدى زواياه سلسة حديدية سوداء اللون بطول متر تقريباً، مثبّته بمسمار محكم في الحائط، من جهة، ومن جهتها الثانية مربوطة بحلقة حديدة من نصفين وتفتح وتغلق بواسطة عتلة منزلقة! ولدى استفساري عن مغزى وجدوى هذه السلسة في هذا المكان؟ أجابني الشماس، إنها وسيلة، وغاية للزائر لتحقيق أمنياته وأحلامه، ومتمّمة لكرامات القس مار متّي.
بعدها طلب مني الشماس، أن أضع هذه الحلقة في رقبتي لبرهة من الزمن وأَطلبْ أمنيتي ومُرادي من الرّب، عسى أن يستجيب لها …! فاستجبت لطلبه وفعلت ما يريد مجاملةً له ومداراةً لمعتقده وعقله، لكن لم أتطلّع لمطلب معيّن، لعدم قناعتي بمثل هكذا أفكار وأساطير، أو ربما خوفاً من المكر وتبعاتها.
مرّت لحظات صمت والحلقة حول رقبتي …! أشفقت فيها على حالي وأنا بهذا الشكل وهذا المنظر المُفزع، حيث خالجني شعور ثاني، وجالت في خاطري أفكار سوداوية لا أَحسد نفسي عليها وقتئذ أو يحسدني الأخرين …! (ولله في خلقه شؤون).
بعد أن أنهيتُ من تجربة هذا الابتداع والاختراع الغريب جلسنا جانباً نكمل حديثنا، واستهلَّ الشماس بسرد قصص وحكايات تاريخية عن النتائج الإيجابية والملموسة للزائرين بفعل هذه السلسة وحلقتها، وحدّثني عن واقعة حدثت في زمن ليس ببعيد؛ حينما قام الفريق الأول الركن عدنان خير الله طلفاح، وزير الدفاع، بزيارة مفاجئة للدير في نهاية سبعينيات القرن الماضي، وكيف أنه وضع هذه الحلقة في رقبته، وطَلبَ مُراده في قلبه، ونذر شيءً لربّه، واعدًا نفسه بصَدَقَة واجبة الدفع عليه، فيما إذا تيقّن هذا النذر الأمنية.
من المعروف أن المسلمين بشكل عام والعراقيين بشكل خاص لا يؤمنون بهذه المعتقدات والطلاسم من كنيسة أو دير أو معبد، فلديهم مزاراتهم وخُرافاتهم الخاصة المعروفة، حينما يمرّون بحالات عصيبة وأزمات معقّدة ومحن ومناسبات معيّنة…!
بعد سنة من هذه الزيارة الميمونة وتحديداً في 26/8/1980، تحققت أُمنية عدنان خير الله، حينما رزقه الله بطفل، ليكون الشقيق الذَكر الأول لشقيقته الكبرى والثاني في العائلة، فأسماه (علي) تيمناً بالإمام علي بن أبي طالب. وبعدها رُزق بولدين وبنتين. ويبدو أن معجزة الشيخ متّي وبركاته، قد نزلت في عروق عدنان خير الله، وأن الحلقة السوداء لهذه السلسلة الحديدة قد فَعَلت فعلتها البيضاء في رقبته وألقت بظلالها الوافرة على أمنيته الغالية وأكملتها على أحسن وجه.
تركت هذه الولادة أثرًا طيّبًا في نفس عدنان خير الله ونشوة غامرة، وسعادة ملأت أركان البيت وأفراد العائلة، خاصةً إنها جاءت بعد انقطاع نسله لأربعة سنوات عُجاف.
بعد هذا الحَدث السعيد ومن باب الوفاء بنذره والتزامه وصدق وعده، بادر المرحوم عدنان خير الله، وأوعز في حينها -بأوامر عليا-إلى الجهات الهندسية في بلدية مدينة الموصل، وطلب إليهم أن تُشرع بتزفيت وتبليط بقية الشارع الواصل من أخر نقطة مبلّطة، صعوداً إلى الدّير مباشرة، وإنهاء معانات الزائرين وتسهيل وصولهم بالسيارة لا راجلًا كما في السابق، وهو ما تمَّ إنجازه بالفعل، وبدأ الناس يسلكونه للوصول إلى الدّير بسياراتهم بكل سهولة ويسر، دون عناء أو مشقّة، وأنا أحد الذين استفاد من نتائج هذا النذر …!
لا زال هذا الشارع الصاعد قائمًا حتى اليوم، لكن ربما جيل اليوم لا يعرف مَنْ صاحب الفضل الرئيس بإقامة هذا المنجز من الطريق. أو ربما أنها جُيّرت لجهة أخرى غيره، خاصةً بعد استشهاد الفريق عدنان في عام 1989 … والله أعلم!
بعد أن أكملتُ مهمتي الترويحية والروحانية لهذا الدير، واستمتعتُ بقصّة الشّماس، شكرته على حسن الاستقبال ومنحته عطيّة أو إكرامية قدرها 25 دينار في حينها، فشكرني كثيرًا مع الدعاء بالحياة السعيدة -التي لم تتحقق- وودعته، فعزمت على مغادرته وباشرت بالنزول إلى الطابق الأرضي متوجهًا إلى سيارتي، وما أن وصلت باب السيارة حتى سمعت صوتاً يناديني من أعلى الدير وإذا بالشّماس نفسه يستأذنني بالصعود لأمرٍ ما، فأخذت بالصعود إليه لأستوضح ما يريد، فقال لي أَمام مساعده وبصوت واضح: (كي لا أتعرّض أنا -أي الشّماس- إلى ضغينة أو حسد، وأنا ومُساعدي منزويان فُرادا في هذا المكان البعيد عن البلدة، فأن مُساعدي هو الآخر يستحق العطيّة والكرم منك أيضاً …!).
أحسستُ بمعنى كلامه الواضح وصحة تقديره لذلك، وغابت عن خاطري تلك الملاحظة الجديرة، فالتفتُّ إلى مساعده وأكرمته بـ 25 دينار أيضًا، من باب إكمال الجميل ودفع الشر، كما يقال …! عدتُّ أدراجي إلى الطابق الأرضي وخرجت من باب الدير، وما أن فتحت باب السيارة حتى جاءني صوت الشّماس مرة ثانية يرتجّيني بالصعود مرة ثانيةً …! اتّكلتُ على الله وبدأت مرحلة صعود جديدة أخرى لطوابق الدّير، وبعد أعياء واضح وصلت للشّماس فأخذني جانبًا منفردين هذه المرة، بعيداً عن مُساعِده. وهمسَ في أذني وقال باستعطاف: (ليس من القسط والعدل وأنت الكريم، أن تكرمني بنفس ما أكرمته لمُساعدي، ولا بد أن يكون هناك فرق أو تميّيز بيننا كالفرق في درجات الكهنوت في الكنيسة!). مرة أخرى شعرت أن الشّماس، على حق ولابد من إنصافه هذه المرة، فمنحته خمسة دنانير إضافية، لحل هذا الإشكال…! خطفها الشماس من يدي ووضعها في جيبه بلمح البصر، وشكرني من خلال رمشة عين وابتسامة خفيفة، دون أن ينبس ببنت شفة.
أما أنا فخطفتُ نفسي ونزلت مسرعًا وركبت السيارة على عجل خشية أن يصلني نداء ثالث منه …! وانطلقت عائداً إلى مدينة الموصل فرحًا بهذه الزيارة المريحة والهادئة.
بينما أنا على وشك من أنهاء تسطّير هذه الخاطرة، فقد أوصلت تفاصيل تلك القصة والمعلومة إلى عائلة المرحوم عدنان خير الله -عن طريق أحد أصدقائي، المقرّب منهم-التي بدورها تذكّرتها وأيدتها، فسعدتُّ كثيرًا لمصداقية شماس الكنيسة في روايته لهذه الواقعة بعد أكثر من عقد من السنيين على وقوعها. وابتهجتُ أكثر لذاكرتي النشطة والقوية بعد مرور ربع قرن على سماعها.
انتهت زيارتي الأولى لدير مار متّي، والتي ربما ستكون الأخيرة، لكن في تقديري … وخُلدي … ونظري … أن الفالح الأكيد والكاسب الأهم من هذه القصة هو:
انتهت زيارتي الأولى لدير مار متّـي، أو دير الشيخ متـّي، والتي ربما ستكون الأخيرة، لكن في تقديري … وخُلدي … ونظري … أن الفالح الأكيد والكاسب الأهم من هذه القصة هو:
الشّمّاس … ومُساعده … وعدنان خير الله…!