لا يمكن لأحد أن ينكر ما حققته الديمقراطية اللبرالية من منجزات في مجال الحريات السياسية وسيادة القانون وحقوق الانسان، إلا أن ذلك لم يتحقق برغبه النخب السياسية الحاكمة أو كنتيجة لتنورها أو لتطور في وعيها الحقوقي كما هو شائع، بل هو حصيلة لصراع طويل تخللته ثورات وحراكات شعبيه قادتها أحزاب ونقابات ومنظمات الدفاع عن حقوق الأنسان، من حركة الحفارين واللفلرز في بريطانيا والثورة الفرنسية و كومونة باريس وثورات ١٨٤٨ م مروراً بالحركات المناهضة للحروب وصولاً الى حركة مناهضة العولمة وغيرها من الحراكات المعاصرة.
الادعاء بأن الديمقراطية هي المنجز الحضاري للرأسمالية إنما هو استهانة بتضحيات ونضال الشعوب عبر التأريخ لانتزاع حقوقها، وقد كان الأغريق القدماء في أثينا يقولون: لا تحيا الديمقراطية ان لم يشعرالاوليغارك بالخوف. وربما يفسر هذا ما شهدته العقود الاربعه الماضية من تراجع للديمقراطية اللبرالية التي بدأت تتعثر بمتناقضاتها وتستهلك منجزاتها؛ وقد سلمت مفاتيح التحكم بآلياتها بيد الطبقات الاوليغاركيه فاحشة الثراء، والتي تمكنت من الهيمنة على صناعة القرار في الديمقراطيات العريقه والفتيه على حد سواء.
تكمن اشكالية الديمقراطية اللبرالية بالاعتقاد أن الحريات السياسية وحقوق الانسان والمساواة أمام القانون يمكن تحقيقها بمعزل عن العامل الافتصادي والفوارق الطبقية، أي ان المواطن البسيط مثلاً يمتلك من حرية التعبير و الوصول الى المعلومه و نشرها، بقدر ما يتمتع به مردوخ ملك الاعلام في العالم، والذي يمتلك معظم وسائل الاعلام من قنوات فضائيه وجرائد، إضافة إلى نفوذه الواسع لدى جميع حكام البلدان في المعمورة، أو أن القانون يمكن أن يقف محايداً ومنصفاً للفصل بين فلاح صغير تضررت أرضه من مبيدات مونسانتو، وبين شركة مونسانتو التي تمتلك جيشاً من كبار المحامين وخبراء القانون، ناهيك عن نفوذها في اروقة المحاكم والسياسة.
بالعودة الى عنوان المقال، ما يدعو الى التركيز على حكم القانون، كونه أحد المرتكزات الاساسية للديمقراطية ان لم يكن عمودها الفقري. ما هو شائع عن حكم القانون في ظل الديمقراطيات الغربية صورة مثالية متخيلة لا تخلو من مبالغة، مفادها أن القانون لا يفرط بشئ من عدالته بوجه النفوذ والثروة، فالجميع متساوون أمام القانون بغض النظر عن المكانه والنفوذ السياسي أو الاقتصادي.
في الدول الديمقراطية تتحقق المساواة أمام القانون والعدالة الحقوقيه فقط في الفصل بين عامة الناس، بينما يبدي القضاء ليونة فائقة في الاحكام ضد فاحشي الثراء أفراداً أو شركات، ولا يقتصر ذلك على صياغة القوانين بل في تنفيذها أيضاً. ولم يكن مبالغاً من وصف القانون على انه مثل شبكة العنكبوت، تمزق خيوطها و تنفذ منها الحشرات الكبيرة بينما تعلق بخيوطها الحشرات الصغيرة، وقد عبر جورج أورويل عن ذلك بسخرية ( الجميع متساوون إلا ان هنالك من هو أكثر مساواة من الآخرين )، ويمكن لأي متتبع - دون جهد كبير- أن يجد ما لايحصى من الشواهد والأسانيد لاثبات ذلك، إلا ان الملفت للانتباه الى حد الصدمه والذهول أن ينعم مثلا رؤساء سلسلة مصارف (HSBC ) العالمية بحياتهم المترفة أحراراً خارج السجون، بعد أن أثبتت السلطات تورطهم في غسيل أموال عصابات المخدرات وأموال المنظما ت الارهابيه!.
لم تعد فضيحة غسيل الاموال التي اتهمت بها تلك المصارف قابلة للتغطية بعد أن أثبتت التحقيقات الفدراليه واعترفت ادارة المصارف بأنها متورطة مع سبق المعرفة والاصرار ولأكثر من عقد بتهريب اموال عصابات المخدرات المكسيكية والكولومبية، اضافة الى أموال منظمات ارهابية مرتبطة بمصارف سعودية وبنغالية مشبوهة. وقد ذكر خبراء مكافحة المخدرات أن تهريب أموال عصابات المخدرات أصعب بكثير من تهريب المخدرات ذاتها، وقد مارست تلك العصابات أعمال عنف راح ضحيتها المئات من القتلى في المكسيك وكولومبيا، و ادخل في السجون الامريكيه عشرات الآلاف من الفقراء الامريكيين ممن عثر بحوزتهم على كمية ولو قليلة من المخدرات، كما أن عشرات الآلاف قد أدمنوا على تعاطيها، فهل استل القانون سيف الصرامة على تلك المصارف التي سهلت لعصابات المخدرات والارهاب عملها التدميري؟ كلا، بل تمت تسوية الأمر باتفاقية عام 2015 بين وزارة العدل الامريكيه ومسؤولي ادارة تلك المصارف بدفع غرامة تقدر بأرباح البنك لخمسة أسابيع فقط، ولم يدخل أياً من المسؤولين السجن حتى ليوم واحد، بل عوقبوا بتأخير ( وليس الغاء) استلام مكافآتهم لمدة خمس سنوات، وعدم استخدام طائراتهم الخاصة للأصطياف ببحر الكاريبي لمدة سنة، وهكذا تحققت سيادة القضاء العادل ولا أحد فوق القانون !!.