شفق نيوز/ ترى مجلة newsweek الأميركية، أن عوامل التقسيم لا تزال يلوح في أفق العراق، خاصة مع اقتراب الانتخابات التشريعية في البلاد، التي تكشف المنافسات فيها عمق الطائفية والتدخلات الخارجية التي تخيّم على هذا البلد.
ترصد المجلة الأميركية الحكاية من خلال محمد جاسم، الذي يسرد في حديثه قصة السنوات الثلاث التي قضاها في قتال ومطاردة تنظيم الدولة، من ضفاف نهر دجلة إلى جبال مخول والحدود الصحراوية للعراق المتاخمة لسوريا، فلم يُطلق جاسم على نفسه أبداً لقب جندي. ولكن، مكللاً بفرحة النصر، أطلق جاسم، ذلك المحارب الشيعي المقدس، على نفسه لقب مجاهد.
المقاتلون الشيعة في المقدمة
عبر هاتفه المحمول المحطَّم، عرض جاسم مقطعَ فيديو غير واضح، صوَّره منذ شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2017، لمعركة في الصحراء المحيطة بمدينة القائم العراقية، التي كانت آخر مدينة سيطر عليها تنظيم الدولة في العراق، قبل أن يتم تحرير حلقة الوصل الاستراتيجية الحيوية في شبكة الإمدادات واسعة الانتشار للمسلحين.
في السابق، كان جاسم ذلك الشيعي المتدين، الرمادي الشعر، وأصيل جنوب العراق، عاملاً في مصنع، ولكنه كان من ضمن عشرات الآلاف من العراقيين الذين انضموا إلى قوات الحشد الشعبي، في 2014، لقتال تنظيم الدولة الإسلامية الذي اجتاح مساحات واسعة من البلاد.
وبعد فتوى أصدرها آية الله علي السيستاني، الذي يعد أكبر سلطة دينية شيعية في العراق، حثَّ فيها جميع المؤمنين على حماية وطنهم من تنظيم الدولة. فانضم إلى هذه الميليشيات الكثير من السنة واليزيديين والمسيحيين وغيرهم من الأقليات، ولكن بأعداد أقل بكثير من الشيعة.
وأثناء طرد تنظيم الدولة من تكريت، ثم من معاقل السنة في الفلوجة والرمادي وأخيراً الموصل، كان المقاتلون الشيعة الذين يحظون بدعم بارز من إيران، يتولّون زمام قيادة هذه الحرب.
تقول المجلة الأميركية، إنه في الوقت الراهن، ينظر الكثير من الشيعة إلى الانتصار الذي حقَّقوه على أنه ليس نتيجةً فقط لقوة الإرادة، بل هو بمثابة قدر محتوم.
وتجدر الإشارة إلى أن لواء علي الأكبر، الذي ينتمي إليه جاسم، ينتسب إلى ضريح الإمام الحسين في مدينة كربلاء الجنوبية، ويعتبر آية الله علي السيستاني مرشده الروحي.
وبموجب القانون، تخضع جميع الميليشيات التي تشكل الحشد الشعبي لسلطة رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، ولكن يعد الواقع أكثر تعقيداً بكثير.
وعندما تم تشكيل قوات الحشد الشعبي سنة 2014، تجمَّعت الكتائب حول هياكل السلطة المتنوعة؛ منها المؤسسات الدينية، والأحزاب السياسية، والجماعات العرقية أو الجماعات القتالية القديمة. وبينما كانت الميليشيات تقاتل تنظيم الدولة، كانت تتفق على تحقيق هدف مشترك. ولكن، في الوقت الراهن، بعد هزيمة تنظيم الدولة أصبح لمقاتلي الميليشيات رؤى مختلفة لمستقبل العراق.
بالنسبة لجاسم، الذي كان مقاتلاً عسكرياً ضمن القوات الخاصة في عهد صدام حسين ثم عامل مصنع "لا تمثل الطموحات المتضاربة للميليشيات المختلفة معضلة". وفي السياق ذاته، أفاد جاسم بأنه لا يرى أي تناقض بين اتباع العبادي والسيستاني، حيث لم تصلهم أية أوامر. وأضاف المصدر ذاته أن "سلطة وصلاحيات رئيس الوزراء تخول له أن يعرف ما يجب علينا القيام به في المستقبل، بالإضافة إلى رؤية آية الله السيستاني التي تدعمه".
أما بالنسبة لقائد جاسم، علي حمداني، فقد ظلت المعركة ضد تنظيم الدولة جزءاً لا يتجزأ من أي مناقشة حول بناء عراق جديد. وأثناء حوار أجراه مع مجلة "نيوزويك" في نهاية سنة 2017، كان حمداني مدفوعاً بالتفاؤل إزاء سلسلة الانتصارات التي حققوها، التي شملت سقوط الموصل في يوليو/تموز من سنة 2017، لكنه في الوقت ذاته، كان يعتقد أن القتال ضد هذه الجماعة المتمردة السنية سيظل مستمراً وسيستغرق عامين آخرين على الأقل.
وفي هذا الصدد، قال حمداني إنه "لهذا السبب، كان من المهم أن يبقى مقاتلو الحشد الشعبي في المناطق السنية المحررة من العراق، حيث كان يُنظر إليهم في أحسن الأحوال، بعين الريبة، وكانوا في أسوأ الأحوال يعتبرون قوة احتلال". وأردف المصدر ذاته "لقد ضحَّينا بأرواحنا من أجل تحرير جميع مناطق العراق. لذلك، يجب على قوات الحشد الشعبي أن تبقى في تلك المناطق التي حرَّرتها للحفاظ على الأمن".
في الحقيقة، جاءت تلك التضحية بشق الأنفس، وبفضل عامل الخبرة الذي لعب دوراً حاسماً. وبعد ثلاث سنوات من الحرب ضد الخصم المخيف، أصبح الحشد الشعبي يتمتع بخبرة عالية في المعارك. ولمدة أربعة أشهر، قاد حمداني قواته من أجل القضاء على مجموعة من مقاتلي تنظيم الدولة في جبال مخول.
في سياق متصل، أفاد حمداني بأن "تنظيم الدولة لم يتمكن من الاستيلاء على قدم واحدة من الأراضي في تلك الجبال". وأثناء الحملة العسكرية التي دامت أربع سنوات ضد تنظيم الدولة، فقد لواء علي الأكبر 285 مقاتلاً، الذين اعتبرهم المجتمع العراقي شهداء، فضلاً عن إصابة 1400 آخرين بجروح.
كانت إيران تقف وراء تحرير الموصل والمناطق الأخرى، التي استولى عليها تنظيم الدولة، حيث دعمت بصفة علنية ميليشيات الحشد الشعبي (وكذلك العبادي) والجنرال قاسم سليماني، الذي صُور على أنه قائد الكتائب الشيعية في الأيام الأولى من الحرب ضد تنظيم الدولة.
والجدير بالذكر أن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، كان صريحاً في انتقاده لدور طهران في الشرق الأوسط، في حين أن كلا من السعودية وإسرائيل كانتا ترصدان بحذر الوجود العسكري والسياسي المتزايد لإيران في العراق. فضلاً عن ذلك، انتقد أكراد العراق الدور الذي تلعبه إيران في البلاد.
وقبل أن تنتهي معركة دحر تنظيم الدولة، انهار التحالف ضد تنظيم الدولة، الذي ضمَّ قوات الحشد الشعبي، والجنود الحكوميين، والمجتمع الدولي والبيشمركة الكوردية، بعد أن طردت القوات العراقية الكورد من كركوك، تلك المدينة المتنازع عليها، التي انتشرت فيها القوات الكردية في بداية الحرب. وفي إثر ذلك، اتَّهمت حكومة إقليم كوردستان العراق إيران وسليماني على وجه الخصوص، بالتدبير لشنِّ هذه الهجمات.
في المقابل، نفت قوات الحشد الشعبي وجود سليماني في مكان قريب من ساحة المعركة، على الرغم من أنه كان في كوردستان العراق، ومن المرجح في مدينة السليمانية، وذلك وفقاً لما أفادت به بعض المصادر في قوات الحشد الشعبي.
بعد هجوم كركوك، صرَّح وزير الخارجية الأميركي، ريكس تيلرسون، أن الوقت قد حان ليعُود المستشارون الإيرانيون للحشد الشعبي إلى ديارهم". وقد ردَّت حكومة بغداد على تصريحات تيلرسون، من خلال تحذير الولايات المتحدة من التدخل في شؤونها. وبحلول سنة 2018، واقتراب موعد ترشح العبادي للانتخابات التي ستُعقد في أيار/مايو، أضحى دور الميليشيات الشيعية وداعميها الإيرانيين في السياسة العراقية، بارزاً كما كان في السابق.
منافس العبادي
من بين المنافسين الرئيسيين للعبادي في الانتخابات المقبلة، تذكر المجلة الأميركية قائد الحشد الشعبي، هادي العامري، الذي تولَّى قيادة منظمة بدر، التي تعد من إحدى المجموعات العراقية شبه العسكرية المدعومة من طرف إيران.
في المقابل، كان ردُّ فعل العبادي على ترشح العامري، من خلال الحصول على دعم السيستاني والزعيم الشيعي المتشدد مقتدى الصدر، الذي أصبح رمزاً للتمرد الشيعي ضد الولايات المتحدة من منتصف إلى أواخر الألفيتين من خلال تكوين جيش المهدي. وجنباً إلى جنب مع السيستاني، أصبح مقتدى الصدر صانع ملوك في العراق.
إن مثل هذه المشاغل السياسية والدولية لا تزعج حمداني، الذي رفض الرواية التي تفيد بأن الحشد ذراع إيران في المنطقة أو أنه في جيبها. في هذا السياق، استحضر حمداني الحرب بين إيران والعراق، التي دارت بين سنة 1980 و1988، معتبراً إياها دليلاً على استحالة قتال الإيرانيين إلى جانب العراقيين. وحيال هذا الشأن، أكد "لا يوجد مقاتلون إيرانيون معنا، وأقول هذا بكل صدق، فقد قاتلنا إيران منذ أكثر من 20 سنة، في حرب دامت ثماني سنوات"، ثم وقف وأظهر صورة كانت على رف مكتبه الصغير، لميليشيا مقاتلة مجتمعة في إحدى ساحات المعارك، ثم قال "هل ترى أي إيراني في هذه الصورة؟".
في المثلث السني
لقد كان وسط مدينة تكريت العراقية أول المناطق المحررة من قبضة تنظيم الدولة، خلال شهر أبريل/نيسان من سنة 2015. وفي الوقت الذي كان فيه صدى أصوات الحرب يتردد عبر الشوارع، من انفجار لقذائف الهاون، وهدير الرشاشات الآلية عالية التردد، أصبح الأطفال الآن يركضون ويلعبون هناك.
وقبل غروب الشمس بدقائق معدودات في تكريت، كان هناك موكب زفاف يشق طريقه عبر المدينة. لقد كانت السيارات البيضاء المزينة بالأربطة الوردية كهدية عيد ميلاد، تزمر أثناء مرورها بالقرب من حطام مسجد لم يكتمل بناؤه، وبقايا مبنى سكني متهاوٍ على جانب واحد، تحولت طوابقه السفلى إلى شظايا إسمنتية.
بالنسبة للعراقيين السنة، فإن أي عرفان بالجميل لتحريرهم من تنظيم الدولة يرافقه انشغال عن عودة الصراع الطائفي المرير، الذي مزَّق العراق في أعقاب الغزو الأميركي سنة 2003. وفي ذروة القتال في وجه تنظيم الدولة، وقبل استعادة القوات العراقية السيطرة على غالبية المدن العراقية السنية، عصفت الطائفية بالبلاد لعقود، وقد تعيد تكوين نفسها من جديد.
لقد ذكرت مختلف التقارير ارتكاب أعمال وحشية في محافظة الأنبار، في مدينة الفلوجة والرمادي وغيرهما. لقد اختفى المئات من الرجال السنة من الفلوجة في أعقاب القتال الذي حرّر المدينة، في يونيو/حزيران من سنة 2016. كما أظهر جنود الميليشيات الشيعية صوراً مرعبة لأجساد تعود لمقاتلي تنظيم الدولة.
أما ضمن العمليات الأخيرة لتحرير الموصل، عاصمة تنظيم الدولة، المدعومة من قبل الولايات المتحدة، فتم التأكيد على بقاء قوات الحشد الشعبي في الصفوف الخلفية، والعمل على تحرير القرى بعيداً عن المدينة المكتظة بالسكان.
تهميش المناطق السنية
على بعد ميل واحد من تكريت، يدير أحمد الكريم مجلس المحافظة من خلف جدران خرسانية مسلحة. ولقد انتخب الكريم، الحائز تدريباً في المحاسبة، والمنتمي إلى إحدى القبائل السنية البارزة، لتولي هذا المنصب في سنة 2013، قبل صعود تنظيم الدولة، وقبل أن يتمكن مقاتلوه من إقناع المواطنين المحاصرين ضمن المثلث السني أنهم قادرون على تأمين مستقبل أفضل من بغداد، وهو أمر يعتقد الكريم أنه قد يحدث مرة أخرى.
ومع عودة الحياة إلى تكريت، لم يكن التمويل المقدم من قبل المجتمع الدولي وبعض المنظمات غير الحكومية كافياً لإتمام صيانة الأضرار التي لحقت المستشفى العام في المدينة. وفي الأثناء، لا تزال المنازل غارقة في الأنقاض، في حين يعيش سكان مدينة بيجي، التي تبعد 45 ميلاً شمالاً، على اعتبارهم لاجئين على الرغم من تحرير المدينة منذ أربع سنوات.
أوضح أحمد الكريم أن محافظة صلاح الدين قد تعرضت للتهميش من قبل حكومة بغداد مقارنة بمحافظة الأنبار التي حرّرت مؤخراً. وأقرّ الكريم بأن الأنبار التي وجد تنظيم الدولة الوقت الكافي لإحداث أضرار جسيمة فيها، في حين كانت عمليات القضاء عليه داخلها مكلفة جداً، كانت في حاجة للدعم. ولكن لا يعني ذلك أن محافظة صلاح الدين لم تكن تحتاج المساندة أيضاً. وأردف الكريم أن "الوضع سيان بالنسبة لكلتا المحافظتين".
وقد شعر الكريم بأن الممارسات الحكومية التي غالباً ما تهمّش الأقلية السنية كانت على وشك الاضمحلال، وكان لديه شيء من الإيمان بأن مشاغلهم ستلقى آذاناً صاغية قبل فوات الأوان. وفي هذا الشأن، قال الكريم، إنه "في البداية شعر الكثيرون بالتعاطف مع تنظيم الدولة لأنهم كانوا يعتقدون أنها ثورة ضد الحكومة. في المقابل، لم تحاول الحكومة الاتحادية وللأسف أن تستغل التغيير في طريقة تفكير الأفراد في الوقت الراهن، حيث عزفت عن جني فوائد ذلك". وأوضح أحمد الكريم أنه في حال شعر السنة المحليون أن حقوقهم لا تزال غير معترف بها، وأن الرواتب لم تتحسن، في حين أن نسب البطالة لم تتقلص، فقد يعيد التاريخ نفسه.
إلى جانب استعادة مصفاة بترول صلاح الدين، تم استرجاع مصنع الأسمدة وغيرها من المصانع في المنطقة بشكل سريع. في الأثناء، باتت المشكلات التي تسببت فيها الميليشيات المحلية من أبرز مشاغل الكريم. ثبت على جانب الطرق المؤدية إلى مداخل تكريت ومخارجها صور آية الله السيستاني ومقتدى الصدر، كما يسيطر على نقاط التفتيش مقاتلون ينتمون إلى سرايا السلام التابعة للصدر.
عموماً، باتت المشكلات المتعلقة بطول التمركز شبه العسكري في الأراضي السنية العراقية حقيقة في محافظة صلاح الدين. في هذا الشأن، أفاد أحمد الكريم أن قوات الحشد الشعبي التي يضطر للتعامل معها أصبحت الآن أكثر انشغالاً بتحقيق الكسب المادي والقوة من تعزيز الأمن. وأضاف الكريم أن "وجود مثل هذه الجماعات الحاملة للسلاح في مجالنا ليس أمراً جيداً. في الواقع، عمدت هذه الجماعات إلى التدخل في شؤون المواطنين والحكومة. لقد أقحمت نفسها في الكثير من الاتفاقيات الحكومية. لقد أصبح دورها يميل أكثر إلى الجانب المادي من مجرد حفظ الأمن".
وأردف الكريم أن غالبية ما وصفه "بالتدخل" وقع في الغالب من قبل الميليشيات الشيعية في حق المواطنين السنة. وبالقدر الذي يهمه أمر المناطق السنية التي غذت ودعمت تقدم تنظيم الدولة، ركَّز الكريم على ضرورة إبعاد الحشد الشعبي، وفي حال لم يحدث ذلك سيعيد التاريخ نفسه.
وفي هذا السياق، أكد الكريم أن "الحكومة الاتحادية تحتاج من جانبها لتعزيز قواتها الأمنية، فلا نرغب في قدوم عناصر من الجنوب لحراسة مناطقنا. يمكننا القيام بذلك بأنفسنا".
أنتخب أحمد الكريم رئيساً لمجلس محافظة صلاح الدين في سنة 2013، واضطرت حكومته إلى الفرار من تكريت، بعد أن خضعت المدينة لسيطرة تنظيم الدولة، ليتخذ الكريم من سامراء المجاورة، إحدى المناطق الشمالية في العراق، مقراً له من أجل صدِّ تقدم المسلحين. وقد تعرَّضت المدينة لشهور عديدة لهجمات لا هوادة فيها. ومع نهاية الصراع، وفي ظلِّ احتفال جنوبي العراق بالنصر، حذر أحمد الكريم من المبالغة في التفاؤل الذي شاب مواطنيه، مؤكداً: لا أرى أي مستقبل مشرق جداً هنا.