علي حسين فيلي/ هناك اشياء غير قابلة للتعويض او الاسترجاع، كتهشم الحجر، وضياع الفرص، واهدار الوقت، ووفق هذه القواعد تم اخراجنا وتضييعنا، ولم يتبق لدينا فرصة لاسترجاع ما سلب في الماضي، وتبقى لنا اتهام احدنا للاخر على ضياع فرصة مضى عليها نصف قرن، وباءت كل المحاولات للتخطيط والتنفيذ ولا ننسى ما فعله النظام البائد من تسفير الفيليين فميول البقاء وطموح العودة تم استقطاعها، لان مقدمات الثقة والقوة والامكانات تم مصادرتها، فحتى في الفترة الذهبية للمعارضة في خارج العراق نخبة الفيليين لم يستطيعوا خلق ارتباط وثيق حتى مع المرحلين والمهاجرين فخيوط التواصل ضعيفة، والان نتيجة الماضي والحاضر واحدة، والفرق الان نحن نخدع انفسنا ونقنعها اننا خدعنا الاخرين، وهذا السبب ان النخبة الفيلية تبوح بما تشاء للاخرين وبالطبع الطرف المقابل يسمعنا ما يبغضنا مسطرا اتهامات تخص الميول والتوجه والالتزام فالمحصلة جملة من التشكيك.
اليوم ليس هناك في العالم عقد اجتماعي أبدي ونحن لسنا من الشعوب المحظوظة في تجربة الانفصال الودي مثل الـ"التشيك" عن "سلوفاكيا" والذي لم يؤرق أحدا في كلا الجانبين خلافاً لما يجري في المنطقة فإنه مجرد ذكر شيء حول الانفصال والاستقلال وحق تقرير المصير فسرعان ما تغمر حمامات الدماء الشوارع والطرقات، فيما الهجرة المليونية من مختلف الفئات جعلت مفهوم تقديس الأوطان بلا معنى.
ونحن الفيليين عندما يحين لنا عصر ذهبي فعند ذآك يمكننا ان نقرر مصيرنا، لذا لا بد ألاّ نتعمق بما قمنا به بل من المفترض ان نشغل أنفسنا بما يمكن ان نقدّم او ننجز لأن الماضيّ كان سبباً بما نحن فيه الآن. وللأسف شيء جوهري اصبحنا نفتقد له اليوم وهو ان المتصدين لقضيتنا لايخدمونها من قبيل مواقعهم مختلفة الانتماءات فكل اصبح يغرد خارج السرب تارة، ويتشتت ويشتت الاخرين بكل حدب وصوب تارة اخرى.
لدينا مجموعة من التوجهات القديمة والجديدة تساعدنا على الوصول الى تفسير لواقعنا ويمكننا القول انه المفتاح الأخير للولوج الى صلب قضيتنا، وبالنسبة للقرن المنصرم فإن الفكر اليساري قد شغل حيزاً كبيراً لمختلف فئات شريحتنا، وعطاؤنا في هذا المجال وصل لمرحلة بأن يكون سكرتير الحزب الشيوعي فيلياً وهو (عزيز الحاج)، ومن سوء حظ اليساريين لم يتألق نجمهم لكي يتسلموا السلطة في العراق على الرغم مما قدموه من التضحيات والنضال، وهذا احد الأوراق التي كانت من ضمن "الخسارة"، ان مشاركة الفيليين كانت على طريق الحرير لتلك الحركة وهم ارادوها مسكناً لألم جرح ماضٍ تسبب به العثمانيون قبل الملكيين والجمهوريين، والتوجه الثاني وهو القومي واذا اردنا تعريفه فهو عبارة عن مزيج من نداء العدالة والمساواة بين مكونات الشعب العراقي لنيل الحقوق، كانت للفيليين مشاركة واسعة وتأثير واضح فيه لا يمكن انكاره على مر الأزمنة، لتكون هذه المشاركة ظل يلتجأون اليه من لهيب العنصرية وسمومها التي كانت تبثه الحكومات في بغداد، وقد وصلت مشاركتهم لمرحلة بأن يكون فيلي سكرتير الحزب الديمقراطي الكوردستاني لأكثر من عقد من الزمن ومرشح لنائب رئيس الجمهورية بعد اتفاقية 11 آذار1970، وهو حبيب محمد كريم، اما مع نكسة ثورة أيلول بسبب اتفاقية الجزائر المشؤومة لكي يبدأ معها سيناريو إبادتنا مع محو مواطنتنا بغض النظر عن التوجهات، ولم يتبق بعد ذلك استعداد للمشاركة بتوجه آخر على المستوى السابق، وتراجع قياديين فيليين على مستوى الحركة الكوردية واضح للعيان، ومحصلته كانت احدى اوجه ضياعنا التي حيكت بايدينا، واما الإسلام السياسي عبر التوجهات المذهبية فهو التوجه الذي لم يتفاعل معنا مثل التوجهان السابقان ، الذي كانت مشاركتنا فيه - وبما فرضه القائمون عليه - محصورة بالقواعد الشعبية وبالمنفى ولا يسمح لنا بالتدرج لتسلم المناصب القيادية فيه بذريعة ان شريحتنا لا ترغب بالظهور في المقدمة بقدر ما تريد ان تخدم المعتقد، وهذه التوجهات بدأت بالنخبوية وبعدها اندمجت بالشعبية لتنتهي بالاخيرة وحدها، وهذا يلزمنا باننا عندما نفكر بأمر يخصنا يجب ان نتفهم واقعنا برؤية خالصة بلا خوف مما قد يرجحه لنا الاخرون، لأنه في اغلب الأحيان الفكرة تنبع من رحم ما يجول بالخاطر.
ففيليو اليوم هم اكثر مظلومية كبقية العراقيين والاغلبية ليسوا بحزبيين او ناشطين بالمسائل التنظيمية، وكما المعروف فالمعتقد الخاص لا يحتاج لموقع او تنظيم او حزب يقولبه. وبطبيعة الحال هذا الاختيار سهل ولايحتاج لتكلفة، ومتناسق مع البيئة المحيطة.
قبل قرنين المفكر الفرنسي جان جاك روسو كان يتمنى ان يصل العالم الى عقد اتفاق اجتماعي يسود فيه العقل على لغة العنف، وبالنسبة للعراق يوجد فيه ثلاثة عناصر، وهي "القومية، والطائفية، وباقي التوجهات الأخرى" وهذه أصبحت محركاً للمجتمع تتجه به الى اين ما تشاء من عنف او تصالح او اقصاء الاخر وتقبله، والفيليون قد جربوا الخسارة بانواعها، ولم يتذوقوا في يوم طعم الربح والمنفعة، ونحن لا نريد الاعتراف بان اللاعبين في الساحة السياسية هم كثر، وحسب ما تقتضيه يتمّ تقريبنا او ابعادنا، ودائماً ما يتمّ توزيع التضحيات والمعاناة بالعلن اما الامتيازات فانها تتمّ بالخفاء، والتوجه اليساري الآن هو خارج اللعبة، اما الصراع بين القومية والطائفة فإن نفسه طويل، ويتلاءم مع التحولات الحاصلة في المجتمع، فجذور ذلك الصراع ممتدة بين الأرض والسماء.
ولا بد هنا من ان نعترف باننا لا نعرف الرأفة بيننا، ونتعالى ونتكبر على بعضنا البعض ولا يسامح احدنا الاخر مهما كان الذنب صغيراً، وفي تصفية الحسابات بيننا نلجأ الى ما هو اشدها اقصاءً والغاءً في "مجال قضيتنا" ومنذ سقوط النظام والى الان، تجاربنا الملموسة بعنوان "المظلومية، والتسفير والتهجير، والاضطهاد، والتعريب" والتي نتأسى بها دائماً، أصبحت في مدة ليست بالقليلة منتهية الصلاحية، وكان من المفترض ان تتم مواجهتنا بتلك الحقيقة، ونخبتنا انشغلت في العقد الاخير بقضايا عامة وابتعدت عمّا نعانيه واحياناً ساهمت الانتقاص المعنوي من شخصيات مضحية من الشريحة، وحتى البحث في مجال النقد يتمّ للأشخاص والادوار التي اداها أبناء الشريحة في الماضي كقياديين او رواد في أحزاب، وضعوهم في خانة المقصرين واتهموهم بعدم متابعة أحوال وأوضاع الشريحة.