بدر اسماعيل شيروكي/عندما تنساب الجداول من عيون الوطن لتصب في نهري دجلة والفرات وتندفع نحو بحار العدم، تذوب الثلوج حزنا؛ وعندما تهب الانفاس المنعشة من مشاتي الوطن وتندفع نحو غبار ورمال الصحراء وتختنق في اعاصير الحرارة، تتساقط ازهار الزنبق والاقحوان والنرجس حزنا، وتغرد طيور القبج والحسون حزنا لتواسي الجبال، ولكن عندما يسوق ابناء الوطن، ذكريات قدم خير وزملاء ليلى قاسم، اسرابا اسرابا الى احواض السم والتيزاب والتذويب، تسكت الاقلام ولاينطق الكتاب، ولايسأل رفاق السلاح وقادة الوطن، عنهم ولا يعرفون تواريخ استشهادهم، لكي يقولوا لهم جملة في تحية ذكراهم.
انا، وعن طريق مؤسسة شفق بعد عام 2003 فصاعدا؛ اختلطت عن كثب وبشكل مباشر بهموم انكسارات وتراجيديات التاريخ الاسود وماجرى على الفيليين خلال نصف قرن مضى.
تلك المؤسسة باهتمام ورعاية من قبل رئيس حكومة الاقليم حينها السيد نيجيرفان بارزاني، اتخذت من الزاوية الشمالية لساحة المستنصرية في بغداد مقرا لها، في تلك الايام ومثل هدية ربانية ونفس عيسوي، وجدت ان اواخر انفاس ذلك الجزء المظلوم وبقايا تلك العظام البالية التي انفلتت من بين انياب ذئاب البعث وكانت لما تزال ينفح منها رائحة وعبق وأصل الكوردايتي، اولئك الذين مازالت عيونهم مليئة بذكريات ثورة ايلول وصور البارزاني الخالد، مثل تعويذة العين واللسان معلقة على صدورهم، ذلك المكان كان يعج بنبضات قلوبهم التعبة ويضمهم ويجمعهم ويرحب بهم بلهجتهم (خۆش هاتێ وەخێر هاتی).
وفي اروقة وغرف مؤسسة شفق، كان العشرات من كبيرات السن والعجزة ينتظمون في طابور بظهورهن المحدودبة والعكازات في ايديهن وكان معظمهن من النساء اللواتي سيق فلذات اكبادهن وازواجهن نحو التغييب بسبب كونهم كوردا فقط. قليل منهن من فقدت عزيزا واحدا فمعظمهن كن ممن خسرت اثنين او ثلاثة حتى من بينهن من خسرت ستة من احبائهن الذين تم اقتيادهم ولم يعودوا بعدها ابدا.
انا كنت ارى في دموع تلك الامهات الفيليات الحزينات دموع الامهات البارزانيات الحزينات، وفي خدودهن المحترقة كنت ارى وجوه الامهات الگرميانيات الذابلة، كنت ارى في خصيلات شعرهن الذي ابيضّ مبكرا الشعر الابيض للامهات البهدينانيات الذي خيم عليه الشتاء. كنت ارى هناك الاحزان المشتركة والبكاء المشترك والجور المشترك والعدو المشترك والتاريخ المشترك، ولكن للاسف؛ في السنوات اللاحقة لم تلق ترحيبا مشتركا ولا تقديرا مشتركا ولا استذكارا مشتركا من قبل حكومة اقليم كوردستان، حتى كأن قدر الفيلي كتب هكذا، ان يقوم الوطن الام مرة اخرى بترك هموم الامهات ودماء الاف الشباب الفيليين وحتى مؤسسة شفق نفسها، التي كانت في العاصمة الاكثر قتامة ودموية في العالم منبرا للترحيب بشكله الكوردي الحار.
ترجمة: ماجد سوره ميري