عبد الصمد اسد/ باتت شعوب وحكومات العالم بجميع اجهزتها، وكذلك الإعلام الحر، وشبكات التواصل الاجتماعي هذه الايام، فی حالة طوارئ ومحصورة ومهتمة بالحديث والعمل على مكافحة وباء (كورونا) وتداعياته الصحية والأمنية والاقتصادية والدرامية في أول تحد صحي بهذا الشكل يجتاح الدنيا.
ونتأمل بعد زوال هذا الوباء بسلام، ان لا يتراجع هذا الاهتمام العالمي وخاصة عند الانظمة المستبدة والفاسدة، وان تعالج نفسها من (وباء) ظلمها والكف عن ممارسة اضطهاد شعوبها. وعلى الاعلام وشبكات التواصل الاجتماعي ايضاً الاستمرار بانتهاج التوعية وترك الترويج للاحقاد والكراهية بين الشعوب، فكما انتشار وباء الكورونا لم يستنثي احد من الجنس البشري فوباء التمييز العرقي والديني والطائفي وسلب حق المواطنين في العيش الكريم الذي استشرى في عروق الانظمة هو الاخطر والاكثر فتكاً بالناس.
فاوبئة الامراض التي تفتك بالبشر لا ترى بالعين المجردة، ولها علاجات مختلفة واثارها قد تكون كبيرة، لكن لها حدود زمنية لشفاء الناس منها، بينما اوبئة الانظمة المستبدة في تنوع اساليب ممارساتها الاجرامية بحق الشعوب لا يمكن تحديدها بعدد او ازمان، لانها وكما الاوبئة تتشابه فقط في عملية التحول البايولويجي من سيئ الى اسوء، فتلد الواحدة اخرى، لتفتك بالناس من اجل بقائها، والعراق يعد نموذج حي على ذلك .
فحين تأسست الدولة العراقية في ظل نظام عالمي جديد العام 1923، سُن قانون مجحف صار وباء سياسي ضد حقوق الانسان في العيش الكريم، وهو قانون الجنسية الذي تم بموجبه تقسيم المواطنين العراقيين، الى فئات ذات تبعيات غير عراقية، كالتابعية العثمانية والتابعية الايرانية وتابعيات اجنبية اخرى، وكأن العراق تشكل من خلال استيراد شعوب من تلك الدول بحيث اصبح الانسان الذي تابعتيه (عثمانية) هو من الصنف الاول في الحصول على الحقوق والامتيازات الوظيفة ويتحكم بمصير الانتماءات الاخرى، وصارت التابعيات الاخرى من الصنف الثاني والثالث، فنتج عن ذلك القانون تمييز عرقي وديني، وتمايز وظيفي غير عادل بحق المواطنين، مما يمكن وصفه بانه طعن بشرعية العراق كدولة ذات سيادة وتاريخ عريق وسلالة أثْرَتْ الحضارة الانسانية بقوانين ملهمة ومهمة في تسيير حياة البشرية دون تمييز.
هذه المقدمة والمقارنة فرضها علينا مصادفة نزول وباء (كورنا) على العالم، وانشغال الناس بكيفية النجاة من ويلاته، بخبر اعلان مدير عام دائرة شؤون وحماية المقابر الجماعية اوائل شهر آذار الماضي عن اكتشاف موقع مقابر جماعية تضم رفاة شهدائنا الكورد الفيليين، بعد مرور اربعين عاماً على تلك الجريمة، دون العثور على اثر لهم حتى جاء هذا الاعلان.
لقد كشف مديرعام دائرة شؤون وحماية المقابر الجماعية في مؤسسة الشهداء، السيد ضياء كريم، عن تفاصيل جديدة حول مقبرة جماعية، في تصريح نشرته وكالة (شفق نيوز) في الثالث من الشهر الماضي، فذكر "إن دائرته، توجهت للتحري على بعض المعلومات، التي سبق ان وردت لها حول وجود مقابر جماعية للكورد الفيلية، وانهم توصلوا الى احداثيات من خلال صور جوية، لتحديد هذه المقابر، وسيقومون لاحقاً اجراء زيارة ميدانية للموقع لاجراء تقييم فني لفتحها".
موضحاً انه، "تبين ان الارض التي تم اجراء تغييرات عليها تدل على انها مقابر كبيرة، وقد تحوي ضحايا كثر، وانه " لم يسبق ان عثروا على مقابر جماعية تعود لضحايا كورد فيليين، وقد تكون هذه المقبرة من الاماكن الرئيسية الخاصة بضحايا الكورد الفيليين".
وعزا سبب "عدم الاسراع بالكشف عن منطقة المقبرة الجماعية، الى اتخاذ اجراءات امنية، للحيلولة دون العبث بهذه المناطق، وعدم اثارة مشاعر ذوي الضحايا، كي لا تكون سلبية في حال توجههم الى هذه المناطق".
وان دائرته "تريد التعامل بمهنية مع هذه القضية" وما تتوصل اليه من معلومات، سوف يعرضوها على الشعب العراقي".
يستحق السيد ضياء كريم وكل العاملين في مؤسسة الشهداء كل الشكر والتقدير على جهودهم هذه، ونتمنى عليهم كذوي الشهداء، الاسراع في الكشف عن هذه المقابر بعد انجلاء وباء كورونا بسلام ووضع حد لمعاناة اربعين عاماً من الصبر في نفق انتظار مثل هذا الخبر.
فطوال تلك السنوات العجاف في حياة المهجرين ظل ذوي الكثير من المغيبين يعيشون اعوام مریره بین قلق دائم على مصير ابناءهم في سجون ومعتقلات صدام قبل سقوطه، وبين امل لقاءهم احياء حين تم تشكيل النظام الحالي. ولكن احلامهم وآمالهم اصطدمت ايضاً بواقع مؤلم، حين لم يتم العثور حتى على اثر لهم سوى اسماء وتواريخ تؤكد على اعدامهم، مسجية على اوراق بيضاء، ومصفوفة على حيطان مكاتب البحث عن مصيرهم، وكأن تلك الاوراق صارت اكفاناً لهم، والحيطان نُصُبُ لتخليد استشهادهم، يزورها ذويهم بعد ان طال بهم اليأس في العثور حتى على دليل او شواهد بسيطة يواروها التراب لتخفف عنهم آلام فقدانهم..
وعلى الرغم من ان اعلان هذا الخبر قد يداوي بعضاً من جراح وآلام اهالي الضحايا، الا انه لا يسقط حق توجيه عتاب كبير وطويل بطول زمن معاناتهم، الى الاحزاب وبالذات القومية الكوردية وكذلك الشيعية ومنظماتها الانسانية، التي ما انفكت تعلن في كل عام عن تعاطفهم مشكورين بالبيانات والادعية، واعترافها بان مظلومية الكورد الفيليين ثلاثية الابعاد كونهم كورد وشيعة ووطنين. ولكن تلك البيانات والدعوات العاطفية، كصكوك الغفران ومفاتيج الجنان لا رصيد لها فی الواقع" كي تصرف في بنوك الدنيا، كما استحوذ بعضهم وانصارهم على السلطة وصكوك البلد نقداً، واقرب مثال هو اقرار قانون (رفحا) الذي تحقق بسبب ثقل واكثرية نواب الشيعة، باحتساب رواتب عالية دون تدقيق في حقيقة واستحقاق غالبية من شملهم القرار، في حين لم يتم تعويض وانصاف حتى العديد من ابناء شعبنا الكوردي في كوردستان، من ضحايا الانفالات والكيماوي والمقابر الجماعية وانتفاضة اذار المجيدة، وكذلك ضحايا التهجير القسري من الكورد الفيليين في وسط وجنوب العراق، بعد انتزاع وثائقهم الرسمية التي تثبت عراقيتهم، وتم رميهم بشكل وممارسات لا انسانية، على الحدود العراقية الايرانية وبقوائم فيها اسمائهم واعدادهم، وقد استشهد اعداد منهم بالالغام او الغرق، او الموت كمداً في الخيام عند الحدود، او في المهجر.
والمؤلم ان سلطات نظام صدام احتجزت الالاف من شبابهم الابرياء الذين كان بينهم اطباء ومهندسين ومدرسين ومثقفين واصحاب مهن حرة وطلاب مدارس وفي ضمنهم من كان يؤدي الخدمة العسكرية، وتم اعتقالهم ومن ثم تغيبهم في مقابر جماعية لم تكتشف الى هذه الايام التي نستذكر فيها محنة اربعين عام من جريمة التهجير وغياب اثر لشهدائنا الذين تم اخيراً الاعلان عن العثور على موقع علها تكشف عن اثارمن اجسادهم الطاهرة.
وموصولا بما سبق من اشارة الى قانون (رفحا)، يحق لنا التساؤل، لماذ لا تقوم الجهات المختصة باعادة التدقيق والتحقق من بيانات رواتب (الرفحاويين) والتأكد من عدم وجود شبهات تزوير وفساد؟، كما تفعل وزارة الرياضة والشباب في فترات من كل عام بالتأكد من صحة استحقاق العديد من الرياضيين الذين يستلمون المنحة، وفق قانون (منح الرواد) الذي تم تشريعه من قبل مجلس النواب ايضاً، ولماذ هذا الكيل بمكيال طائفي، ما دامت الدولة تعترفبان ثروة العراق للعراقيين، وان المواطنين سواسية في الحقوق وما يؤكده الدستور في نص المادة (131) على ان الدولة ، تكفل "رعاية ذوي الشهداء والسجناء السياسيين والمتضررين من الممارسات التعسفية للنظام الدكتاتوري المباد." وبالرغم من كل ذلك وعلى مدى سنوات حكم النظام الجديد في العراق، وصدورقوانين وقرارت ومراسيم رئاسية من السلطات العراقية ملزمة التنفيذ، نجد اسلوب المماطلة والروتين والتلكؤء لدى دوائر الدولة سارية المفعول في عدم جدية الدوائر المعنية الاسراع بانجاز معاملات اعادة الجنسية والحقوق التقاعدية والفصل والسجين السياسي، واستعادة الاموال المنقولة وغير المنقولة للكورد الفيليين.
قد لا يريح هذا التساؤل والتوضيح البعض، ولكن واقع حال ما جرى على الكورد الفيليين لا ينكره منصف ولا تجافيه حقيقة كونهم اول واكبر شریحه من المواطنين العراقين تعرضت حياتهم ومستقبلهم واستقرارهم الى الدماروالتفكيك والتشتيت بين دول العالم، كوحدة عائلية واجتماعية، اثر جريمة التهجير، وهذا التوصیف لا یعنی المزایده او القفز علی مصاب وآلام عراقیین آخرين، من مختلف القوميات والطوائف ، قد تعرضوا ايضاً الى الظلم على يد جلاوزة النظام السابق، ولكن ما يؤلم ان تشريع وتنفيذ الاستحقاقات القانونية بحق الكورد الفيليين بالذات لم تكن عادلة ولا هي بحجم خسائرهم البشرية والنفسية والمالية...
فحين نعاتب ونتسائل ونؤشر على مواضع الغبن، وبصراحة، فلا نتعدى بذلك على حقوق الاخرين ولا نتنكر لتضحيات الاحزاب، ولا نبخس حق رموزها او انصارها، ولكن مرارة الاهمال وعدم الجدية بوضع حل لمعاناة الضحايا سوى بالبيانات والادعية تفرض التذكير والدعوة الى وضع حد لتلك المآسي جدياً، لان مرارة الصبر لها حدود.
ولكي نكون منصفين، لا يعفى من توجيه العتاب واللوم ايضاً الى الشخصيات والجمعيات الكوردية الفيلية على تقصيرها في كيفية العمل من اجل تحقيق اهدافها الانسانية الخاصة باسترجاع حقوق الكورد الفيليين عندما دخلت الى العراق مباشرة بعد سقوط النظام السابق في العام 2003 ، حين تسابقت الى العمل الفردي دون قيادة لها رؤيا في تحديد هدف واضح وصريح .
لقد كان للشخصيات الكوردية الفيلية وخاصة في لندن وبعض دول اوربا دور كبير في احياء الجمعيات الفيلية، ابتداءاً من العام 1982 للدفاع والتعريف بقضية الكورد الفيليين، حيث كانت تنشط وباستمرار في اقامة نشاطات اجتماعية وثقافية وسياسية، وتقديم يد المساعدة بالترجمة والاستشارات القانونية الى اللاجئين الجدد للحصول حق الاقامة والسكن، وكذلك كان لهم الفضل في تزويد الاحزاب العراقية ومنظمة الصليب الاحمر، وهيئات ومنظمات حقوق الانسان الدولية بوثائق وادلة، شملت على قوائم باعداد التجار والعوائل المهجرة واسماءها مع ملفات تضم افاداتهم واسماء اعداد من شبابهم الذين تم حجزهم وتغييبهم في سجون النظام البائد.
واصدرت ولاول مرة في تاريخ الكورد الفيليين صحيفة باسم (نداء الكورد) وكذلك تم اصدار نشريات لتعبر عن لسان حالهم باللغة العربية، ولم تستثني تلك الاصدارات طرح مظلومية العراقيين ونشاطات الاحزاب والمنظمات العراقية بشكل عام ، ولكن مع الاسف الشديد لم تستثمر كل تلك الاعمال والجهود من اجل استعادة الحقوق من اول فرصة ذهبية سنحت اثر سقوط الصنم.
حين تراخت واضمحلت العديد من تلك الجمعيات ونشاطاتها في اوربا، وبدلا من استمرار نشاطاتها في العراق كما فعلت الاحزاب، لكن بعضها انشغلت في فتح فروع صغيرة بتابعية حزبية، غير مستقلة، واخرى كمنظمة الاحرار حاولت ان تنأى بنفسها كما كانت في لندن عن الاحزاب ولكنها اصطدمت بواقع عدم السماح لوجود تمثيل مستقل للكورد الفيليين وخاصة عندما كانت شخصياتها تقوم بلقاءات سياسية مع قيادات كوردية، فدب خلاف واختلاف لا يسثنى من تبعاتها المؤلمة الجميع.
فبدلا من القيام باتفاق بوضع اسس ومقترحات عن اولوية تحقيق الحقوق المهضومة للكورد الفيليين قانونياً انصبت اللقاءات على مناقشة الحصول على حصص وزارية ودبلوماسية او وظائف حكومية، وكان الاجدر ان تعمل جميع تلك الاطراف على التنسيق والاتفاق على حصول الفيليين على كوتة ومشاركة مستقلة بالانتخابات وليس عن طريق تشيت اصوات الفيليين بين الاحزاب والائتلافات الكوردية والشيعية.
ولو تم يومذاك التنسيق واستغلال الزخم العددي للكورد الفيليين خاصة بعد نزوح الالاف من افراد وعوائل اشقائنا الكورد من مناطق خانقين ومندلي وكذلك امثالهم من اقضية المحافظات الجنوبية التي كانت هجرتهم الى بغداد تعود الى اسباب بعضها معيشي وبعضها الاخر بسبب تعرض مناطقهم الاصلية الى ويلات حروب صدام الخارجية ضد ايران، لكان للكورد خارج اقليم كوردستان عدد لا بأس به من النواب تخدم قضية الكورد الفيليين بشكل خاص والعلاقة الاستراتيجية بين الشيعة والكورد لخدمة العراق بشكل عام، ولا تفوتني الاشارة بهذا الصدد الى ان السياسي الشيوعي السابق الفقيد عامر عبد الله قد كان يكرر القول ان (بغداد تعتبر اكبر محافظة كوردية) وهذا التعبير لا يجافي الحقيقة .
قد يكون ما تقدم من صراحة القول لا يتفق معه او لا يرضي البعض من اطراف العملية السياسية ومحازبيهم، بكل اطرافها، وقد لا يرضي كذلك بعض المنظمات والجمعيات والشخصيات الكوردية الفيلية السابقة في اوربا والحالية داخل اقليم كوردستان وخارجه، ولكن كما كنا نتجرأ في السابق على نقد ممارسات وجراحات النظام السابق التي مورست بحقنا مع الفارق في المقارنة والتشبيه مع النظام الحالي، الا انه من حق المظلومين والمغبونين ان لا يسكتوا ابداً عن المطالبة بحقوقهم المهضومة الى ابد الدهر.
ورغم كل ماسبق في هذا الاستذكارمن عتاب واشارات، تحت عنوان (اربعون عاماً عجاف على محنة الكورد الفيليين دون انصاف)، ليس بغرض التقليل من شأن دعم الاحزاب والمنظمات المعنية و قياداتها او نكرانها من قبل الضحايا الذين تترقب عيونهم وقلوبهم كل مايصدر من بيانات تخفف على اقل تقدير من الم جراحاتهم في مثل هذه المناسبة، ولكننا نشيد ونحترم كل مايصدر من تعاطف ودعم، وفي نفس الوقت ،نناشدهم ان يكون لها موقف واضح وصريح، ومتابعة مستمرة للجهات الحكومية في الدولة العراقية، وحثها على تنفيذ القرارات الصادرة المعنية بحقوق الكورد الفيليين، كونها مشاركة في الحكومة وسلطات الدولة، ومحاسبة المقصرين.