تعرض اوسكار وايلد لانتقادات شديدة لقوله أن أسوأ السادة اولئك الذين يعاملون عبيدهم باشفاق، لأنهم يحجبون عن رؤيتنا جوهر النظام العبودي. بالطبع لم يكن وايلد بقصد ادانة طيبة وعطف السادة من منظور أخلاقي إنساني، انما يشير الى ما قد ينشأ عن تلك الظاهرة من فخ ثقافي يسهم في تجميل نظام العبودية وحرف الانظار عن جوهره الوحشي القائم على ملكية الانسان لأخيه الانسان، كسلعة تباع وتشترى، وكثيراً ما نعثر في الادب الكلاسيكي على صورة مالك العبيد المحسن، في مقابل العبد ناكر الجميل، حتى ان تولستوي العظيم رائد المذهب الأنساني قد انزلق بهذا الفخ في مجموعته القصصية (الملاك). واليوم في ظل العولمة وهيمنة النيوليبرالية والسوق المتحررة من اي ضوابط أو قيود نشهد ظاهرة مماثلة تتمثل بالاعمال الخيرية لمؤسسات تمولها بسخاء كبريات الشركات متعددة الجنسية وأثرياء العالم، يعقدون عشرات المؤتمرات سنويا في دافوس وغيرها، لمكافحة الفقر وكوارث التسخين الحراري ودعم التعليم والقضاء على الامراض وخاصة في الدول الفقيرة.
تضفي تلك الاعمال الخيرية على النيوليبرالية بعداً أخلاقياً نقابله باعجاب ساذج، فهي تستثير مشاعرنا الانسانية و توقنا الطبيعي للعدالة الاجتماعية، الا انها تعالج الأعراض لا المرض، كما ان المعالجة تتم ضمن منطق السوق، دون المساس بآلياته المنتجة للفقر والمسؤولة عن الاتساع الخطير في الفجوة بين فاحشي الثراء وعامة الناس ، فحسب جداول اوكسفام العام الماضي بلغ مجموع ثروات 26 فرداً من أغنى الاغنياء ما يعادل مجموع ثروات النصف الأفقر من سكان العالم أي 3.8 مليار نسمة ، و في الهند يمثل مجموع ثروات 9 أفراد فقط ما يمتلكه نصف الشعب في أسفل السلم ، بينما يمتلك ثلاثة أفراد فقط ( بيل غيتز ، وارن بوفيت ، بيزوس) ما يعادل مجموع ثروات النصف الأفقر من الشعب الامريكي مجتمعين ، أي ما يقارب 163 مليون نسمة ، كما تشير التقارير أن أغنى رجل في العالم (بيزوس ومثله 60 شركة كبرى) لم يدفعوا دولاراً واحداً للضرائب الفدرالية ، وهذا ما يفسر تجاهل أثرياء العالم ومنظماتهم الخيرية معالجة جذر المشكلة اي نظام النيوليبرالية، الذي يتيح لهم الاثراء الفاحش وتمركز رأس المال كما تنبأ بذلك ماركس مصيبا.
مع التقدم المتسارع في التكنولوجيا، والمرونة المفرطة في الضوابط المفروضة على السوق الحرة، ينتج الاقتصاد المعولم ثروات هائلة ترافقها درجة خطيرة من اللامساواة. و كي تحمي الرأسمالية نفسها من نفسها، و لخلق حالة من الاستقرار الاجتماعي، يتعين على الدولة المبنية مؤسساتها على اسس الديمقراطية الحقيقية إعادة توزيع الثروة عبر فرض نظام ضريبي تصاعدي واطلاق مشاريع وبرامج دعم للطبقات الدنيا وتوفير التأمين الصحي والتعليم والخدمات الاجتماعية وغيرها، إلا ان العقود الاربعة الاخيرة قد شهدت تراجعاً كبيراً في دور الدولة، مما ترك فراغاً شغلته مئات المؤسسات الخيرية العائدة للشركات والمصارف الكبرى، وشاع مصطلح الرأسمالية الخيرية في الصحافة والاعلام. أي ان من يلقي بحمم النار قد آثر ان يرتدي بزة رجل الاطفاء.
تبنت تلك المؤسسات مجابهة مشاكل العالم وهي قيادات غير منتخبة، وتلك على ما يبدو احدى مؤشرات تجاوز مرحلة الدولة القومية التي كانت الحجر الاساس للرأسمالية في طور نشأتها وصعودها كطبقة حاكمة، وقد ولجنا طوراً جديداً للرأسمالية أصبحت فيه الشركات متعددة الجنسية عابرة للقومية. المؤسسات الخيرية الممولة من قبل الشركات لا تتمتع باي درجة من الشفافية، وبما ان العمل الخيري عمل تطوعي إنساني فهي لا تخضع لاي مسائله أو تقييم لخططها و ممارساتها، بل تحاسب نفسها بنفسها، غير ان الصحافة الاستقصائية الجادة قد كشفت عن تناقضات فضائحية بين اهدافها المعلنة وممارساتها في الواقع.
- المساعدات لتلميع صورة الاوليغارك :
يصف الاعلام بيل غيتز (صاحب احتكار مايكروسوفت سابقاً) بانه المحسن ذو القلب الكبير، الذي لم يتوقف عن التصريح بانه سيتبرع بكامل ثروته لعمل الخير، إلا أن ثروته تتزايد عاماً بعد عام حتى بلغت 90 مليار دولار هذا العام. حوصر في التسعينات بعشرات الدعاوى في المحاكم الاوربية والامريكية بتهم الاحتكار ومخالفة قوانين المنافسة والتهرب من الضرائب، تنبه حينها فقط ان هناك فقراء جياعاً ومرضى في العالم، فقدحت في ذهنه فكرة تنتشل صورته من الوحل وتجعل منه بطلاً منقذاً لفقراء الارض، وذلك بتأسيس مؤسسة بيل و ميليندا الخيرية، وقد صح ما وصفه به الصحفي ليونيل آرتك: إنه يغادر المطعم دون ان يدفع وجبته لكنه يترك اكرامية كبيرة للنادل.
- مساعدات ام توسع استثماري؟
إعفاء أموال التبرعات من الضرائب يكلف دافعي الضرائب في أميركا 60 مليار دولار، فهل تصل تلك الأموال الى المنتفعين أصحاب الحاجة فعلاً؟.لمعرفة ذلك ربما تكون مؤسسة بيل وميليندا نموذجاً مثالياً للدراسة لما تمتعت به من تمجيد و إطراء في وسائل الاعلام.
للمؤسسة صندوق استثماري على شكل أسهم في كبريات الشركات المثيرة للجدل (صناعة السلاح، البترول، مونسانتا، كوكا كولا، جي بي مورغان، ماكدونالد ... الخ)، ارباح تلك الاسهم -كما تدعي المؤسسة -تنفق في برامج لمكافحة الامراض والفقر وتطوير التعليم وخاصة في البلدان الفقيرة، إلا ان حسابات المؤسسة تشير الى ان 1.4 % من الاموال فقط تنفق على المرافق العامة التي تقدم خدماتها مباشرة للمحتاجين كالمدارس والمستشفيات، فكيف تصرف باقي الاموال؟ تذهب منحاً (وليس قروضاً) لكبريات الشركات تحت يافطة: الاستثمار سيرفع من مستوى معيشة الجميع بما فيهم الفقراء. المنحة الأكبر من نصيب مونسانتو وهي اكبر شركة في العالم تحتكر البذور المطورة جينياً وتسوقها بأسعار غالية جداً وتمنع استعمالها من قبل الفلاحين بعد انتهاء الموسم فعليهم شراءها ثانية، مشروع مضمون لسحق الفلاحين الصغار الذين يشكلون الغالبية العظمى في افريقيا خاصة، و التي يعتمد 80 % من مزارعيها على البذور المحلية، ومن الجدير بالذكر ان مونسانتو تواجه حالياً عدداً كبيراً من القضايا في محاكم اميركا لاستخدامها مواداً مسرطنة في صناعاتها. يقدم بيل غيتز أيضاً منحة وصلت الى 11 مليون دولار لشركة ماستر كارد كي تصدر بطاقات تامين (كردت كارد) في نيروبي وكينيا لتمكين المواطنين من استدانة ما يحتاجونه من أموال، يبدو ان الفقراء لا يعوزهم سوى بطاقة تأمين مصرفي!!، توزع المؤسسة الخيرية جداً منحها المليونية أيضاً على شركات الاعلام العملاقة ( Univisio ، ABC ، NBC ) على اعتبارها تساهم في " توعية المواطنين" ، علماً ان ايرادات تلك المحطات تبلغ عدة مليارات من الدولارات سنوياً، ولا تشغلها التوعية بقدر ما تشغلها دعايات البيتزا و الكوكا كولا. القائمة تطول والخلاصة ان المساعدات الخيرية ليست سوى واجهة أخلاقية زائفة لتمدد السوق الحرة وتعاظم نفوذها.
- الاحسان كسبيل للنفوذ والسلطة:
حقق اوليغارك الرأسمال العالمي نفوذاً واسعاً عبر ما يسمى بالعمل اللاربحي المعفى من الضرائب، وكان بيل غيتز هو الاكثر نفوذاً على اعتباره أكرم المحسنين. تبرع عام 2012 بمبلغ 300 مليون دولارا لمنظمة الصحة العالمية، لا كمنحة بل عبر مشاريع تستثمر فيها شركات صناعة الادوية واللقاحات مثلما وضحت الفقرة السابقة، تلك العطايا ونشاطاتها الاخرى قد حققت له نفوذاً وعلاقات مؤثرة مع رؤساء ووزراء العالم، وطالما شكا المسؤولون من هيمنته على خطط وقرارات منظمة الصحة العالمية، وقد تعرض للكثير من الانتقادات والتساؤلات:
- لم يستثمر نفوذه في حث اي حكومة على اطلاق برامج تأمين صحي مجاني شامل، بل لتوسيع الخصخصة و الاستثمارات في هذا المجال.
- في حين يجمع خبراء منظمة الصحة العالمية على ان العقبة الرئيسية لوصول الفقراء الى الادوية الغلاء الفاحش بسبب نظام احتكار الماركة المسجلة غير العادل، ويدعون الى السماح للشركات انتاج ادوية بديلة باسعار رخيصة، يواجه هو تلك الاقتراحات بمعارضة شديدة، ويعود ذلك كما يرى البعض الى انه جمع ثروته من احتكار مايكروسوفت وهو يسعى الى دعم استمرار الاحتكارات لشركات له فيها الكثير من الاستثمارات (باير، مونسانتو... الخ).
- يصر على صرف المساعدات على لقاحات الشلل الذي لا يصيب سوى المئات سنوياً، بينما يتجاهل الامراض المنتشرة بالسمنة والقلب والسكري، ويعزو البعض ذلك الى تجنب فرض ضوابط صحية وبيئية على شركات الغذاء والبترول والغاز التي تدر عليه استثماراته فيها أموالاً طائلة.
- فعل الخير كنشاط لوبي:
كشفت دراسة صادرة عن (المكتب القومي للدراسات الاقتصادية) في واشنطن أن التبرعات التي تقدمها الشركات باسم العمل الخيري لمؤسسة اجتماعية تزداد بشكل كبير اذا ما كان مدير تلك المؤسسة عضو برلمان أو مسؤولا يمتلك صلاحيات يمكن ان تنتفع منها الشركة المتبرعة، وما ان يترك السياسي المسؤول تلك المؤسسة تنقطع أو تنخفض مبالغ التبرعات بشكل ملحوظ، وقد قدرت الدراسة أن الأموال الخيرية التي تهدف الى التأثير على السياسيين تمثل 40 % من مجموع الاموال المدفوعة للنشاط اللوبي. على سبيل المثال لا الحصر تبرعات شركة بوينغ لمؤسسة كلينتون الخيرية قد درت عليها عقوداً مربحة مع دول عربية بوساطة هيلاري كوزيرة خارجية آنذاك.
- المساعدات للتغطية على نهب الثروات:
تتسابق الشركات الغربية ومصارفها على اطلاق المشاريع الخيرية لاعانة فقراء الدول النامية وخاصة في افريقيا للتغطية على ما يصفه توم بيرجز بماكنة النهب الممنهج (في كتاب يحمل نفس العنوان)، يوثق فيه بالتفصيل دعم الشركات الغربية للحكام الفاسدين وتمويل حملاتهم الانتخابية و تقديم العمولات والرشاوى، و تمويل مليشيات قبلية تؤمن احتكارهم للتعدين و البترول وتهريب الثروة خارج القارة، وقد أصدرت الحكومة الامريكية عام 2010 تحذيراً لعدد من الشركات من بينها آبل و لوكهيد مارتن لوقف تمويل المليشيات التي تستمر في الاقتتال فيما بينها للسيطرة على مناجم التعدين. اظهرت الاحصائيات ان مجموع الاستثمارات الاجنبيه ومداخيلها بما فيها المساعدات الانسانية المقدمة من قبل الشركات والدول الغربية الى البلدان الفقيرة قد بلغ عام 2012 ما يقارب 1.3 تريليون دولار، بينما غادرت الى الدول الصناعية عن طريق الشركات متعددة الجنسية من تلك البلدان الفقيرة 3.3 ترليون دولار في نفس العام، فمن يساعد من؟ هذا اذا ما تجاهلنا ما تتركه تلك الشركات من تلوث للبيئة و اختلال في توازن الطبيعة، مما يؤدي الى مناخات غير صحية وزيادة الكوارث الطبيعية والتصحر.
ما يسمى بالمؤسسات الخيرية ليست سوى واجهة أخلاقية لنظام عولمة غير عادل، يجري وفقه انتقال الثروة من القاعدة إلى القمة، ومن البلدان الفقيرة الى البلدان الغنية.
المراجع:
1- The National Bureau of Economic Research
Tax- Exempt Lobbying: Corporate Philanthropy as a Tool for Political Influence.
2- Winners Take All: The Elite Charade Changing The World, by Anand Giridharadas.
3- Why philanthropy Is Failing Democracy By Rob Reich.
4- The Looting Machine: By Tom Burgis.
5- We're ripping off Africa for decades, by Gerald Caplan, The Globe And MajI, Apr 14 2017.