لم يعد يدهشني عندما يهدر الحراك الكردي في جنوب غربي كردستان جل طاقاته في الخلافات الداخلية، ولم أعد أتعجب سماع لغة التخوين والتهم بكبريات القضايا، وإبداعاتنا فيها، ولا أجدها غريبة عندما يستخدم الأعداء كلماتنا الساذجة بحق بعضنا ليطعنونا بها.
ليس بجديد الصراع الكردي- الكردي، ولا التذكير فيه، ولا تقديم الحجج المنطقية في تخوين الطرف المقابل، ولا منطق ومفهوم إلغاءه، فهي مسيرة رافقت أسلافنا منذ القدم، ملئ أجدادنا صفحات تاريخنا بها، هُدمت على خلفيتها حضاراتهم، وإمبراطوريات، ونسبت لشعوب أخرى، وسقطت حكومات، وإمارات، وفشلت ثورات تحررية، دمروا ماضينا وندمر اليوم حاضرنا كخلف صادق لسلفه، إلى أن أصبحنا شعب نبحث عن تاريخ لنا، بعدما كنا أمة لها مكانتها وهيبتها، واليوم نقضي على البقية الباقية من إمكانياتنا المهيبة.
ما يجري الآن على الساحة الكردستانية، ومنها في جنوب غربها ديمومة لماضينا، إن لم يكن توثيقا لجهالتنا في النضال، فهي ربما تعكس مورثات ما غريبة نتفرد بها دون شعوب العالم! فهل حقا جيناتنا مختلفة عن جينات الإنسان العادي؟ هل قُدمنا من كوكب أخر أو كما يدعي البعض من سفهاء البشر أننا من الجن؟!
لكن ما أثبتناها للتاريخ وللبشرية أننا من الشعوب الأكثر سذاجة في تناول قضايانا القومية، والأكثر أدراكا ومعرفة بل ولربما عبقرية في حمل راية الأمم الأخرى، فلقد أبدعنا في مساعدة الأخرين لتجاوز مصائبهم، وأنقذنا إمبراطوريات شعوب من الدمار، وأمم من الاضمحلال، وديانات من الزوال، وساهمناهم في القضاء على دياناتنا، وتاريخ المنطقة تحمل الكثير من الشواهد، وبقينا موالي لأسياد أنقذناهم في الماضي، وشعب تابع يبحث عن اعتراف ما بوجوده على جغرافيته.
ورغم معرفتنا التامة بما ذكرته، لكننا لا نزال نكررها بدون تحريف، سوى أن أوجه الخلافات تتلاءم والعصر، والنتائج هي ذاتها أو ستكون ذاتها، وجميع أطراف حراكنا المتصارع مذنبون، فالكل على دراية بالتاريخ، يرون ويتلمسون المكتسبات المقدمة لنا أو التي هدرنا الدماء لأجلها، كانت تشبه الأحلام في السابق، مع ذلك ندمرها مثلما فعلها أجدادنا، أو نكاد أن نهدمها بما نحمله من ثقافة التعامل العجيبة بين بعضنا، وبالمنطق الغريب في كيفية التقرب من الوطن:
الوطن الذي نريده لنصف الشعب، ولنصف الحركة السياسية، ولربع الحراك الثقافي. لأن كل طرف يريد أن يقضي على الأخر ويستأثر لذاته قيادة المجتمع.
نريده بإعلام مسير، بلا نقد، مهمته التهجم على كل مخالف، ومعاداة كل من: لا يفكر مثلما يتطلب منه أن يفكر، أو لا يسير على الدروب المحددة له، أو لا ينتهج مفهوم أو إيديولوجية معينة. دكتاتورية بغطاء ديمقراطي.
نريده وطن تحت هيمنة قوة ترفض المنافسة، وترى الأخرين عبث، ويرى الأطراف الأخرى من الحراك الكردي مبني على هدم مكتسبات الأمة أو ليس بكردي، أو خونة، أو حراك لا يمثل الأمة الكوردية.
نريده وطن بديمقراطية نحن على رأسها دون الكردي الأخر، وبرحمتنا تدار، لا يسمح للمفاهيم الفكرية المخالفة الانتشار.
في الواقع لا نريد الوطن، بل جغرافية نقيم عليها ونتصارع، وديمغرافية نتسلى بنشر مفاهيم الخلافات الحزبية بينهم، ونحضرهم للقوى المحتلة كأدوات سهلة الاستخدام، أو كشعب قابل للذوبان، وإعلام نستطيع بواسطته خلق الفوضى بين أمتنا، وترسيخ الثقافة التي نتعلم منها التحريض بين أطياف مجتمعنا، وإلهائه بصراعاتنا.
فإلى متى سيظل الكوردي يرى الكوردي الأخر خائن؟ ونحن نعلم من التاريخ ومن ملاحمنا الغنائية وبعشرات الأمثلة، قصص التخوين بين الأسلاف، وملاحم الاقتتال الداخلي.
إلى متى سنظل دون القدرة على تقبل الأخر كما يريده هو لا كما نود منه أن يكون؟
إلى متى سيظل الحراك الثقافي عاجزا عن تنوير الشعب، وإقناع المجتمع على أن الصراعات الجارية تدمر القضية والأمة؟
إلى متى سيظل الحراك الثقافي تائها بين الأطراف السياسية.
إلى متى سيظل عاجزاً على إزالة الخلافات.
إلى متى سيدرك أن دعمه لطرف ضد طرف كارثة وطنية ودمار لمستقبل أمتنا؟
إلى متى سنقتنع أنه فيما إذا كانت هناك قيادات غير وطنية أو خائنة بين الحراك الكردي، فهي من مهمة تابعيه تصفيته أو وضع حد له، وليس من مهمة معارضيهم، هل حقا لا يوجد بينهم من يدرك مثلما يدركه من هم ضمن حراكهم.
إلى متى سيفرز كل طرف قيادات الأطراف الأخرى كخونه أو لا وطنيين، أو عملاء لطرف خارجي.
أليست هذه ناقصة لأمتنا قبل أن تكون لأطراف من حراكنا؟
هل بإمكان طرف كردي دون أخر تحرير الوطن؟
هل بالإمكان أن يستمر حزبا سياسيا واحدا مسيطرا على الساحة؟
هل يستطيع أحد أطراف الحراك بفرده الاستئثار بالمجتمع الكوردي؟
ألم يحن الوقت لأن نتفق على تقاطعات مشتركة في النضال؟
ألم يحن الوقت لأن ندرك أن الدكتاتوريات تهدم الأمم، والديمقراطية رغم نواقصها ترفع من مكانتها، وأن استئثار حزب أو طرف بحكم الأمة ومؤسسات الدولة دكتاتورية؟
أليست من مصلحة القضية أن يكبح تصعيد التخوين بين الأطراف السياسية؟
أليس التهجم العشوائي على البعض يقسم المجتمع بين بعضه ويضعفه أمام الأعداء؟
بشكل أوضح:
هل سيستفيد الـ ب ي د بتخوين الأنكسي، وقياداته، والتهجم على علاقاتهم السياسية والدبلوماسية؟
هل سينجح الكرد أو الأنكسي في التهجم على الـ ب ي د وقياداته أو على الإدارة الذاتية؟
ما ذا لو تجمعت أطراف الحراك الكردي المستقل (في الواقع لا يوجد شيء أسمه مستقل، نعني هنا الذين هم خارج الهالة التي رسمت حول الـ ب ي د والأنكسي) وتمكنت من إلغاء الطرفين المستأثرين بالقضية الكردية وخلق البديل؟
هل ستدعم القوى الإقليمية أحد أطراف الحراك الكوردي ضد الطرف الأخر، وإن تمت هل ستكون من أجل المصلحة الكوردية؟
هل تدعم أمريكا الإدارة الذاتية وترى أنه من المصلحة الكوردية عزل الأطراف الأخرى عن الساحة؟
كم من المجتمع يدعم تف دم، ونسبة الذين يدعمون الأنكسي، والذين هم خارجهما، أو الذين ينتقدون الطرفين، مع ذلك لا يستمعون إلا لذاتهم؟
هل الطرفان يمثلان كلية الحراك الكوردي، أم أنهما جزء منه؟
هل يحملان القضية الكوردية إلى الهيئات الدولية كما يتطلب، أم يجب الاتفاق على تشكيل هيئة مقتدرة تمثل الأمة خارج مفضلي المصالح الحزبية في الأروقة الدبلوماسية؟
رغم أننا جميعا ندرك أن ما نحن عليه في جنوب غربي كوردستان من خلافات داخلية، أو صراعات، عامل من عوامل الدمار الذاتي وهي أخطر من مؤامرات الأعداء، ونتوقع النتائج الكارثية، وكيف ستكون نهاية قضيتنا، فيما لو استمرت صراعاتنا، رغم ذلك نستمر في السير ضمن المستنقع.
ماذا سيحدث، لو تطورت الخلافات السياسية والإعلامية بيننا إلى صراع مسلح، مثلما جرت في تاريخنا ولمرات عدة؟
ماذا سيكون موقف الدول الكبرى عندما يحين الوقت لحل القضية السورية ويبدأوا في معالجتها عن جد، ويرون أن الكورد لا يزالون على خصام، وصراع داخلي، والأطراف تخون وتلغي بعضها؟
الطوباوية أصبحت من الصفات التي تطلق على كل من يطالب الأحزاب الكردية المتنافسة، بالتفاهم، وتناسي الخلافات وأخطاء البعض بشكل مؤقت.
يهمش من لا يميل إلى طرف ضد الأخر، ويوصف بالواهم حملة الخط الوطني.
نسمع كيف يوصفون من يقدم الوطنية على الأحزاب بالساذج، وبالجاهل الذي يطالب بقيادة واعية تقدم الوطن على الحزب.
من الغرابة أن تصبح الميكيافيلية هي السائدة ضمن أطراف حراكنا، دون العالم الخارجي.
كل ما نطالب به، تكوين مجلس وطني كردستاني من جميع الأطراف، ودون تحايل، أو الاستئثار بطرف دون أخر، وبدون شروط مسبقة.
إشراك جميع الأطراف الكردستانية في جنوب غربي كردستان في الإدارة.
وتشكيل قوة عسكرية مشتركة، بيشمركة كردستان، أو القوة الكردستانية، أو ما يتم الاتفاق عليه، والأسماء ليست بمعضلة أن كانت النوايا حسنة.
كلمة لا بد منها:
آثرنا ذكر كردستان، وطن الشعب الكردي وبينهم الشعوب الذين يعيشون على جغرافيتها، مثلها مثل جغرافية الوطن المسمى جدلاً بالعربي، والذي رغم سلبها من شعوبها، أصبحت تعرف بالعربي. والجغرافية المسماة بالتركية والتي أستأثر بها الشعب التركي القادم من الشرق الأسيوي، والعادم لحقوق الشعوب الأخرى في الجغرافية ذاتها. أو الجغرافية الإيرانية والتي يهيمن عليها المكون الفارسي بعدما كان ولا يزال جزء من الشعوب الإيرانية. وتحديدنا لتحرير هذه الجغرافية ليس نابع من منطلق انفصالي عنصري، بل لتكوين وطن نقي يضم كل الشعوب، على أمل أن تكون نواة لوطن كونفدرالي شرق أوسطي، الثقافة التي أعدمتها الأنظمة الشمولية العنصرية المحتلة لكردستان. فالوطني الصادق، من شعوب الأنظمة المذكورة، والذي يريد الخير لأمته وقوميته لابد وأنه سيدعم تحرير كردستان.