بعدما فشلت لجنتيهما في أنقره الأسبوع الماضي، وصرح على أثرها وزير الخارجية التركي على أن اتصال هاتفيا سيتم بين أردوغان وبوتين، لبحث قضية إدلب، والاتصال التي لم تنم عن أي مخرج لتفاقم الأزمة، ولم يصدرا أي بيان كما هي العادة، باستثناء ما نشره الكرملين على أن الطرفين يلتزمان ببنود اتفاقية سوتشي، والذي بين عن عدم الاتفاق، ولو كانت لا تزال على المستويات التكتيكية، وللتغطية على ما يجري أنتقل الحديث إلى ما ستنتج عن لجانهما اللذين سيعقدان اجتماعا في يوم الأثنين القادم في موسكو، والمرجح أنهما لن يخرجا بحل، باستثناء احتمالية عقد هدنة، أو الاتفاق عليها في الواقع النظري، والمتوقع أنها لن تطبق على الأرض، والمؤشرات أكثر من أن تتم، فالمعارضة تحصل على مساعدات لوجستية بلغت حد إسقاط طائراتي الهليكوبتر، وليس أبعد، أي لن تصل إلى دعمهم بصواريخ على سوية أسقاط الطائرات الحربية وأغلبها روسية. ولم تماثلها، بعد، بدعم المعارضة على الأرض، لذلك وحتى الآن السلطة والمليشيات الإيرانية يتمددان جغرافيا، وقد بلغا مشارف باب الهوى، ولا يستبعد أن تحصل المنظمات التكفيرية على أليات على مستوى أيقاف تقدم السلطة، بل ولربما التفوق عليها في بعض المناطق، كالتي يطالب بها تركيا أي ما وراء قواعدها؛ أو ما تسمى بنقاط المراقبة، فيما إذا لم يتفقا في الأثنين القادم، وبما أن هدف السلطة هي إدلب في هذه المرحلة، وهدف روسيا القضاء على النصرة، فأي اتفاقية ستكون على حساب المعارضة، مثلما عدم الاتفاقية توسيع لحلقات التدمير لكل الأطراف وخاصة للشعب السوري الآمن.
فهناك تحليلات تجول ضمن الأروقة، على أن روسيا هي التي تسمح لتركيا بالتمدد ضمن سوريا، وهي التي تعطيها الضوء الأخضر بإدخال معداتها العسكرية وبهذا الحجم، دون أي اعتراض سياسي أو عسكري، حتى أن قوات السلطة لا تتعرض إلى هذا الاجتياح المشابه للاحتلال بضغط روسي، أو عدم وجود إسناد روسي كما تقدمه عندما تحارب المنظمات المعارضة المسلحة، لتوسع الصراع بين المليشيات الإيرانية والقوات التركية حتى ولو كانت بأدواتها من المرتزقة والتكفيريين المحسوبين على المعارضة، وهذا يعنى أن روسيا وتركيا يريدان التخلص من مسلحي المنظمات التكفيرية بأية طريقة كان، ولا يدخلوا الأراضي التركية في حل خسارتهم وبالسرعة المرئية، كما وأن روسيا تريد التخلص من الميليشيات الإيرانية، أي من الوجود الإيراني في سوريا بإنهاكها، وهي على حافة الانهيار ونضوب القدرة على مساعدة حلفائها في الخارج، لأنها تدرك أن إسرائيل لن تتمكن بعمليات القصف لمواقع محددة ضمن سوريا من تنفيذ هذه المهمة، وكما نعلم أن روسيا تطمح ألا يكون لها منافس على الأرض، وقد صرفت المليارات من الأموال، على العتاد والدعم العسكري للسلطة، وبالمقابل إيران ترى أنها صاحبة الحق في الاحتفاظ بسوريا، بعدما قدمت الألاف من ميليشياتها وحرسها الثوري، وشيعتها من كل الدول المحيطة بها كقرابين لطموحاتها المذهبية، وبالتالي الخلاف غير المعلن بين روسيا وإيران قد تدفع بالأولى البحث عن قوة تنفذ لها هذه المهمة، فوجدت تركيا أكثر من جاهزة للقيام بها، ليس لأن تركيا تريدها بل لأن مصالحها تدفع للقيام بذلك، وهي تدرك ما هي قادمة عليها، مع ذلك فعلاقاتها التكتيكية والإستراتيجية مع روسيا وأمريكا تدفعانها على هذا التدخل، متوقعة ربما أنها ستكون على هيئة احتلالها للقبرص الشمالية.
على مدى قرن تقريبا كانت العلاقات بين تركيا والإتحاد السوفيتي؛ وروسيا لاحقا؛ واهنة على المستويات الإستراتيجية، مكتفيتين بالبروتوكولات الدبلوماسية، وبعض الاتفاقيات على المستويات الاقتصادية والعلاقات التجارية، وبالتالي كانت مجالاتهما تكتيكية، مصالح بين جارتين متلاصقتين، مع طغيان الصور النمطية الطاغية عليهما، حيث العداوة التاريخية، وحاضرا قبل السنوات القليلة الماضية على مستويات عدة، إيديولوجية وعسكرية وغيرها، لكن وبنقلة نوعية وفي فترة زمنية جدا قصيرة مقارنة بعمق الخلافات، تمكنت روسيا البوتينية من تغيير المعادلة بينهما، فنقلت الخلافات الإستراتيجية إلى توافقات إستراتيجية، والاتفاقيات التكتيكية إلى خلافات، وذلك بعد مسرحية إسقاط طائرتها السوخوي 24 فوق الأراضي التركية في 24 نوفمبر عام 2015م، وفيما بعد أتممها بوتين بإفشال عملية الانقلاب على أردوغان، حتى أنه نشر لاحقا أن لروسيا يد ما في الانقلاب.
وبالتالي التقارب بينهما، بلغت مستويات إستراتيجية، لكن لا بد من الانتباه هنا، فرغم كل هذا التضخيم الإعلامي، لم تتجاوز العلاقات بينهما، الارتباطات الإستراتيجية المترسخة على مدى عقود طويلة بين تركيا وأمريكا والناتو، وكمقارنة، وباستثناء الصواريخ س- 400 الروسية والصفقة التي قيمتها قرابة ملياري دولار، لا توجد أية علاقات عسكرية إستراتيجية، نرى بالمقابل أن أكثر من 90 % من السلاح التركي من صنع الشركات الأمريكية ودول الناتو، وهنا نتحدث عن ثاني أكبر قوة عسكرية ضمن حلف الناتو. وأجمالي الاتفاقيات الاقتصادية ما بين تركيا وروسيا لم تتعد حتى الآن 14 مليار دولار، مخطط أن تبلغ في بداية الثلاثينات المئة مليار، مع احتمالية بناء مصنع نووي للطاقة، مع مشاريع لخطوط النفط والغاز الممتد تحت البحر الأسود إلى تركيا ومن ثم الى أوروبا الشرقية، مقابل أكثر من مئة مليار دولار قيمة العلاقات التجارية بين تركيا وأمريكا لوحدها، ولا نتحدث عن دول الناتو، وفي البعد العسكري، علينا ألا ننسى أنه توجد للناتو وأمريكا 12 قاعدة عسكرية، أحدها تحتضن صواريخ ذات الرؤوس النووية. وغيرها من المجالات، كمجال الدعم الاقتصادي والذي بلغ دعم الشركات الرسمالية العالمية وجميعها أمريكية أولا ومن ثم أوروبية، وعلى مدى عقد وأكثر من الزمن نصف تريليون دولار سنويا، أي قرابة ضعفي دخلها القومي، وبها ارتفعت تركيا إلى الدولة 18 اقتصاديا في العالم. وكذلك السياحة، والتي تحدث عنها أردوغان وبوتين في بداية المسيرة الإستراتيجية، والتي مهما صعدتها روسيا فلن تبلغ مستويات الدول الأوروبية التي تضخ سنويا المليارات إلى السوق التركية، في الوقت الذي لا يمكن أن يصل فيها مستوى إنفاق الفرد الروسي إلى سوية الفرد الأوروبي.
هذه المقارنة تبين أن ما قد تم من التغيير بين العلاقات التكتيكية والإستراتيجية بين تركيا وروسيا وبهذه السرعة، قد تعود إلى ما كانت عليه بنفس الوتيرة، وبفترة زمنية مقاربة، وما يجري في إدلب اليوم، وفي ليبيا، رغم أنها لم تصل إلى حد التصادم بين الدولتين، وهي لا تزال محصورة بين تركيا والسلطة ومعها الميليشيات الإيرانية، إلا أنه من المتوقع أن تنتقل إلى مواجهة تركية روسيا، وكتغطية استباقية صرحت تركيا أن الخلافات حول إدلب وليبيا لن تؤثر على صفقة الـ س 400، مع ذلك لا يغطي هذا التصريح على احتمالية حدوث نقطة الانعطاف، والتي، أن توسعت الخلافات، وكما ذكرنا، ستكون عن طريق أدواتهما، وبالتالي سيغرقان في مستنقع الصراع ضمن سوريا، وهنا سنكون على أبواب خلافات ليست تكتيكية عسكرية بل إستراتيجية، وقد انتبهت إليها الناتو، وحاولت عن طريق الأمين العام للحلف تقديم خدمة لتركيا، قائلا بأنه لا يسمح بالاعتداء على أحد دولها، بعد مقتل الجنود الأتراك في سوريا، وامتعضت روسيا من التصريح، وردت عليها عن طريق المتحدثة باسم وزارة الخارجية، وهي عراب السلطة، ولا تقبل منافسا لها في المنطقة.
منطقة إدلب ستخلق إنزياحات في العلاقات بين الدول المعنية على المستويات الإستراتيجية، بعكس حلب والغوطة الشرقية اللتين قاربتا بين تركيا وروسيا، ولربما ستبلغ إلى حد ما الإشكالية التي خلقتها شرق الفرات والقوات الكردية وقوات قسد من خلافات أثرت حتى على المستويات الإستراتيجية بين أمريكا وتركيا، علما أن القضية الكردية في شرق الفرات وقبلها في عفرين والمناطق المحيطة بها، ستظل من العقد الأهم في العلاقات التركية مع أية دولة من الدول المعنية.
مع ذلك ولإنقاذ الإستراتيجية التركية الروسية، من الانهيار أمام الخلافات التكتيكية، فمشكلة إدلب قد تمر بمراحل متتالية، بعقد هدنة زمنية، تتبعها إقامة منطقة آمنة على الحدود التركية تحتضن المهاجرين والمنظمات العسكرية المعارضة، بحيث تخفف قلق تركيا من هجرة الفارين من أراضي المعارك إلى أراضيها، والتي تعد من أحد أهم الأسباب التي تثير تركيا، باستثناء ما يقال عن طموحاتها التوسعية أو البحث عن مناطق الغاز مثلما فعلتها مع ليبيا رغم معارضة أوروبا وروسيا، ومن ثم احتمالية تطبيق الخطة الروسية بديمومة الصراع بين تركيا وأدواتها مع السلطة والمليشيات الإيرانية في منطقة إدلب، ويظن أن هذا هو السبب الرئيس في توسيع تركيا لتدخلها العسكري هنا، علما أن اجتياح وتدمير السلطة لحلب والغوطة لم يؤدي إلى مثل هذا التدخل العلني، والدعم التركي للمعارضة بالصواريخ ضد الهيلوكوبترات جاءت لهذا الغرض، ولأول مرة خلال السنوات التسع من الحرب، أي أيقاف القصف الروسي والسلطة مؤقتا، وبالتالي إيقاف موجات الهجرة، وليس لتتفوق المعارضة على الأرض، وإن كان كذلك لما تمكنت السلطة من احتلال الطريق الدولي ف 5 والمدن الرئيسة وهي تخطط للتقدم نحو إدلب.
فمن المؤلم أن نقول والبشرية تراها، والكل صامت، أن المجتمع السوري أمام نفاق دولي وقوى داخلية أقذر منها، وجدوا سوريا ملعب لصراعاتهم، وقودها الشعب الآمن البائس المرهق حد الدمار.