الكلمة نفسها لها معاني مختلفة فالديمقراطية في الفلسفة تعني حكم الشعب* لكن اي شعب؟ هل بشارك جميع السكان؟ طبعا لا يشارك الّا من يحمل بطاقة التصويت ولاخراجها هنالك دوماً مؤسسة تقضي بمنحها لهذا وحجبها عن ذاك ضمن سياسة الحكومة فيها. وحتى انها اخذت معاني عديدة طبقا للانظمة السياسية التي تبنتها وشكلتها وفقا لنظامها السياسي فالديمقراطية ليست نظاما وانما احدى وسائل النظام في ادارة شؤون بلد معين لكن في هذا المقال المقتضب لايسعني الحديث عنها جميعا ولنأخذ الديمقراطية بالمعنى العام ونموذج اشتهر في تطبيقها وفرضها على العالم وهو النموذج الامريكي وتأكيدًا على النقطة الاولى عن المؤسسة التي تمنح بطاقة الناخب او التصويت فان امريكا لم تمنح حق التصويت للافارقة الامريكان الا عام ٦٦ ولم تمنح لغالبية الهنود الحمر حتى ٦٧ ولم تمنح في بعض عقود سابقة حق الانتخاب لمن لا يملك داراً او عقاراً او ارضاً وكان ذلك ايضا ما ابعد النساء بالرغم من اعترافهم بحق المرأة في اوائل القرن العشرين. النموذج الديمقراطي الامريكي وفق ثلاث احداث واقعية تثبت عدم ديمقراطية الديمقراطية.
الحرب على العراق البلد الذي يمتلك علاقات دبلوماسية واسعة سياسية واقتصادية حول العالم، احد البلدان المؤسسة للامم المتحدة كانت باصرار جناح بوش-رامسفيلد لكن هل كان للديمقراطية اي تاثير في ذلك؟ الحملة العالمية التي اخرجت مايقارب ١٥ مليون انسان في الشارع تهتف ضد الحرب اليس هذا حكم الشعب؟ ماعدا عن جناح كولن باول الذي ايده ايضا بعض الوزراء واعضاء الكونجرس والبرلمان وهو بدعم المعارضة بالمال وتامين غطاء جوي لهجوم المعارضة لاسقاط النظام (حرب باستخدام جيش اخر). قامت الحرب ليس باستفتاء الشعب بل بخدعتين تم تمريرها بجيش الاعلام المطيع، اولها تضخيم حجم الخطر العراقي والثاني ان الحرب لن تكلف ميزانية دافعي الضرائب بل من خلال تبرعات الشركات التي تدعم خيار الحرب. تلك كانت ديمقراطية الخداع حيث لم يكن العراق خطراً وتكلفت ميزانية دافعي الضرائب (الشعب) تريليون ومئتي مليار دولار لحربي أفغانستان والعراق.
حين بدأت حملة (إحتلوا وول ستريت)** تم اعتقال ٥٠٠ متظاهر باليوم الاول ومن ثم بدأت حملة شعواء محمومة لتسقيط المتظاهرين (مدفوعي الاجر) (اعداء الحرية) (المدمنون) (المشردون) و (قطاع الطرق) وبدأ الاعلام بتاكيد الاتهامات وتامين لقاءات لاشخاص يؤكدون الاتهامات. هذه الحملة بدأت بعد الازمة الاقتصادية التي ادت الى تسريح ٢٣ مليون عامل في امريكا وحدها بدون اي ضمان اجتماعي واستنكار الخطوة التي اتخذتها حكومة اوباما بمنح مبلغ ٨٧٨ مليار دولار الى الشركات نفسها المسؤولة عن طرد هذا العدد من العمال فقط كي لا تعلن تلك الشركات افلاسها وبدل من اعتبار حكم الشعب الذي خرج بالملايين في ٨٣ مدينة كبرى كان جواب الديمقراطية المالية هو ان تلك الشركات احق باموال الشعب وعلى الرغم من تقليص حجم التواجد العسكري الامريكي حول العالم لكن العوائد المالية المترتبة على ذلك التقليص لم تكن الا بخدمة الشركات الكبرى.
كمقدمة لهذه الفترة لابد للإشارة الى ان المنحة التي منحتها الحكومة الامريكية للمواطنين هي سبيل اخر لانقاذ الشركات فحين فشل اسلوب المدين الحكومي اتخذ ترامب اسلوب اخر وهو طباعة عدد اكبر من الاموال ومنحها للمواطنين الامر الذي لايعني اكثر من رفع القدرة الشرائية في فترة محدودة لتعود الاموال الى جيوب الشركات الكبرى في غمضة عين. لكن الحدث الاهم الذي رافق ازمة كورونا والازمة المالية التي بدأت بوادرها قبل بضعة اشهروالذي يجب الوقوف عنده هو حادثة مقتل جورج فلويد والاحتجاجات التي تبعت الحادث في مدينة مينيابولس في ولاية مينيسوتا والتي جوبهت تلك الاخرى بالقمع مما اشعل الاحتجاجات وقاد الى عنف مقابل من بعض المحتجين مع ان الغالبية كانت مسالمة تطالب بالعدالة وتصرخ بشعارين "حياة السود مهمة ايضا" و "لا أستطيع التنفس" تعبيرا عن استهداف السود ومقتل العشرات في تلك المدينة وحدها خلال العشر سنين الماضية، ومالبثت الاحتجاجات حتى شملت اكثر من ٦٠ مدينة اخرى. اما الديمقراطية الوقحة كانت بتصريح ترامب بارسال الحرس القومي لحسم الامر.
ان الفرق بين دول الاستبداد والدول الديمقراطية كالفرق بين اسير الحرب الذي قد يسمح له بالتجول في بلد الاسر وبين السجين الذي لايغادر الجدران. ان الشعب الذي يدفع قيمة الحروب وازمات الرأسمالية هو نفسه من يعطي اسباب قمعه من خلال الديمقراطية التي في ارقى اشكالها انك تنتخب ممثليك في البرلمان او الرئاسة لكنك في الواقع لا تنتخب من يحكم البلاد بصورة فعلية فان الشعب الامريكي لم ينتخب وزير الدفاع الذي حسم امر الحرب ولم ينتخب رؤساء الشركات الذي اخذوا اموال دافعي الضرائب وطردوا ٢٣ مليون انسان للشارع لانياب الفقر والجوع وهم انفسهم من صوت للحرب.
الديمقراطية تسمح لك ان تعترض على الحرب على العراق لا ان توقفها، ان تسب الرئيس لا ان تخلعه، ان تتظاهر لا ان تسن القوانين، ان تضع النائب في البرلمان لا ان تخلعه. الديمقراطية وضعت ترامب في سدة الحكم ووضعت الاخوان لحكم مصر وماكرون وجونسون وكل الحاقدين على الانسان والحريات. الديمقراطية ليست صحيحة نظريا والخطأ في التطبيق وانما هي اخر مستوى للحرية تمنحها الرأسمالية.