شفق نيوز/ لف أسوار أسمنتية عالية حول مقبرة الطائفة اليهودية في بغداد ترقد فيوليت شاؤول تحت شاهد قبر تبدو عليه آثار العوامل الجوية والشروخ، يمثل واحدا من آخر تذكارات طائفة قديمة أوشكت على الانقراض.
دُفنت فيوليت الممرضة العراقية قبل عشر سنوات إلى جانب آلاف آخرين في رمال العراق الذي ازدهرت فيه طائفتها لأكثر من 2500 عام.
تستغرق الرحلة بالسيارة يوما إلى شواطئ البحر المتوسط في اتجاه الغرب، لكن عالما آخر يفصل بين الموقعين من الناحية السياسية، حيث تنطق بالحسرة كلمات نقشت على مدخل مركز التراث اليهودي البابلي في إسرائيل تقول “لم يعد للطائفة اليهودية في العراق وجود”.
سكن اليهود في العديد من المدن العراقية ذات الأغلبية الشيعية كالديوانية والناصرية والبصرة. كما عاشوا في المدن السنية كالموصل وبغداد، وكانت لهم أحياء عرفت بأسمائهم ازدهرت وكانت تعتبر من المناطق الجميلة والغنية، لكن بعد خروج اليهود من العراق عانت هذه المناطق من الإهمال الشديد، ومازالت مقبرتهم التي يرقد فيها الآلاف من أهلهم وذويهم في بغداد ومازالوا يحنون إلى زيارتها.
وليس من قبيل الصدفة أن توجد في إسرائيل عبارة رثاء حزينة عن يهود العراق حيث فر عشرات الآلاف منهم إليها بعد عام 1948 وسط موجات عنف صاحبت قيام دولة إسرائيل.
ومما لا شك فيه أن انتقال تلك الطائفة المتعلمة والنشطة والمبدعة أثرت إسرائيل لتواصل حياتها، لكن هذا جرد العراق أيضا من أقلية كانت لها مساهمتها على مر السنين في هويته السياسية والاقتصادية والثقافية.
وتعرض يهود العراق خلال الفترة المعاصرة إلى هزات من بينها عملية نهب ممتلكاتهم في البلد ضمن الحادثة التي تعرف شعبيا بـ"الفرهود" في بداية أربعينات القرن الماضي، لكنهم عاشوا أيضا فترات رخاء وازدهار واستقرار.
وفي عام 1947، بلغ عدد أفراد الطائفة اليهودية نحو 150 ألفا، أما الآن فعددهم يقل عن العشرة.
قال زياد البياتي العراقي المسلم راعي المقبرة التي نادرا ما يزورها أحد في مدينة الصدر بشرق بغداد، إن والده اعتاد أن يتحدث عن ذكرياته عن الأيام التي كانت تتعايش فيها طوائف عرقية مختلفة.
وقال البياتي الذي ورث عن والده المسؤولية عن رعاية وخدمة وحتى إدارة أكبر مقبرة لطائفة الموسوية اليهود في العاصمة، إن تلك الفترة سبقت الاضطرابات التي صاحبت قيام إسرائيل والحروب التي نشبت في السنوات التالية، وكذلك الغزو الذي أطاح في 2003 بصدام حسين وأطلق العنان لسنوات من الصراع الطائفي.
وأضاف البياتي (48 عاما) “اعتاد والدي أن يقول إنها كانت أيام رخاء عاش الناس فيها في سلام جنبا إلى جنب... لا يوجد أي اهتمام بالمقبرة رغم أن الناس هنا يحترمون الموتى وقبورهم”.
ويقول زياد ، التركماني، السني، المتزوج من شيعية، والساكن في مدينة الصدر المكتظة بالشيعة، إن هذه المقبرة تضم أكثر من أربعة آلاف قبر لرجال ونساء توفوا على مدى القرن الماضي وربما أبعد من ذلك، لكنها لم تكن في موضعها الحالي إلا في العام 1975، وهي بذلك تمثل تعبيرا عن واقع العاصمة بغداد التي أخذت تتوسع كثيرا، وصار الموقع القديم في حي النهضة حاجزا في وجه التطور العمراني الكبير حيث اتخذ قرار من السلطات بنقل المقبرة إلى خارج المدينة، وهذا الخارج الآن هو جزء حيوي من بغداد.
ويضيف قائلا “آخر من دفن في المقبرة امرأة من أبناء الطائفة تعمل مديرة لمستشفى الواسطي لعلاج حالات الكسور في العاصمة بغداد، توفيت في العام 2009، وتم تجهيزها ودفنها هنا مع بقية أبناء الطائفة”.
ويؤكد أن المقبرة لم تتعرض للتجاوز من قبل المواطنين، قائلا “إن الناس هنا يحترمون المكان، لا سيما أنها تضم الآلاف من الأموات، لكن القوات الأميركية اقتحمت بدبابة السياج الخارجي، وأحدثت فيه ضررا بالغا بعد أن تحصن جنود من الجيش العراقي السابق داخل المقبرة، وكان ذلك في العام 2003 مما تطلب إعادة إعماره ثانية”.
ويرجع تاريخ اليهود في العراق إلى نحو 4000 عام وإلى أيام الملك نبوخذنصر الذي حكم بابل، ونفى اليهود منذ أكثر من 2500 عام. وترقد في مقبرة بغداد شخصيات رئيسية منها ساسون أفندي حسقيل أول وزير مالية للعراق.
من الأرض القديمة إلى الأرض الجديدة
تسبب قيام دولة إسرائيل في 1948 وما ألحقته من هزائم متعاقبة بالجيوش العربية في موجات أخرى من الغضب الشعبي والعنف الذي استهدف اليهود وهذا فصل من التاريخ مكتوب في شواهد هذه المقبرة حيث يرقد فيها جنبا إلى جنب خمسة من يهود العراق اتهموا بالتجسس لصالح إسرائيل.
وفي ما بين عامي 1950 و1952 تم نقل حوالي 125 ألف يهودي عراقي جوا إلى إسرائيل. جاء كل منهم بحقيبة واحدة واضطروا جميعا إلى التخلي عن الجنسية العراقية. ولا يزال أحدهم وهو أهارون بن هور يحمل ذكريات مريرة عن العراق. ويتذكر بن هور البالغ من العمر الآن 84 عاما ويملك مطعمين للفلافل في تل أبيب مذبحة الفرهود التي راح ضحيتها أكثر من 180 يهوديا عام 1941 خلال الاحتفال بعيد الشفوعوت اليهودي. وكان من بين القتلى والده وشقيقه الأصغر.
وقال بن هور “ألقوا بهما من الدور الثاني. والدي مات بعد عشرة أيام، أما الصبي فمات على الفور تقريبا. كان يمسك به بيديه وألقوا بهما… أما أنا فنجوت”.
وغادر بن هور في عام 1951، وظل آخرون لفترة أطول. وكان عماد ليفي (52 عاما) آخر من هاجر من يهود بغداد إلى إسرائيل في العام 2010.
وأضاف “حافظنا على تقاليدنا، العطلات والمعبد، لكن لم يكن الفرح هو الفرح الذي تشعر به خلال عيد عندما تمشي في الشارع وأغلب من حولك من اليهود”.
ويوضح مركز التراث الواقع في مدينة أور يهودا قرب تل أبيب أن ليفي واحد من نحو 600 ألف إسرائيلي من إجمالي عدد السكان البالغ نحو 8.8 مليون نسمة، الذين يمكنهم القول بأنهم ينحدرون من أصول عراقية. وداخل مبنى أقيم على غرار بيت يهودي تقليدي من طابقين من بيوت بغداد تُعرض آثار دينية وثقافية عن حياة اليهود في العراق عبر قرون.
ويسير الزائر عبر أزقة الحي اليهودي المتعرجة في بغداد التي أعيد بناؤها حيث يشاهد نموذجا مصغرا للمعبد الكبير في العاصمة العراقية.
وتصور المعروضات في المتحف المصاعب التي واجهها المهاجرون العراقيون في سنواتهم الأولى في إسرائيل، حيث كان يهود الأشكينازي، الذين ينحدرون من أصول أوروبية، هم الصفوة الحاكمة وكان يهود السفارديم، المنحدرون من منطقة الشرق الأوسط، يتعرضون للظلم.
وفي إحدى الصور يظهر المهاجرون الجدد القادمون من العراق أثناء رشهم بمادة “دي.دي.تي” المبيدة للحشرات. وأقيمت خيمة على الأرض تبين كيف كان يتم إيواء المهاجرين في البداية.
لكن المتحف يسجل أيضا كيف خرج من صفوف يهود العراق جنرالات في الجيش الإسرائيلي ووزراء ونواب ورجال أعمال وفنانون وكتاب مرموقون.
حنين لأيام العراق الفسيفساء
لا يتوقع عدد يذكر منهم العودة وسط الاضطرابات العنيفة التي مازالت تكتنف العراق وسوريا واليمن وغيرها من الدول التي ازدهرت فيها طوائف يهودية.
ويتذكر زيفولون هاريلي البالغ من العمر الآن 90 عاما، أنه انضم إلى حركة يهودية سرية للدفاع عن النفس في العراق ومصير البعض من رفاقه الصهاينة عام 1948.
وقال هاريلي الذي هاجر إلى إسرائيل عام 1949 “كانوا أطفالا بين 14 و15 سنة.. تعرضوا للتعذيب والشنق.. وتم حرق أعضائهم التناسلية، فقد أعلن العراق أن الصهيونية جريمة”.
ولا يزال البعض يكن بعض المشاعر الإيجابية، فقد قام إدوين شكر الذي ولد في العراق بعدة زيارات لمقبرة بغداد في السنوات الأخيرة، وفي بعض الأحيان نقل أفرادا يريدون الصلاة على الموتى عند القبور.
يقول إن العراقيين يرحبون به عندما يزور العراق ويصادف حنينا لتلك الأيام عندما كان العراق يضم “لوحة فسيفساء” من الأقليات.
ويقر شكر (62 عاما) الذي اضطر إلى الهرب من العراق عام 1971 بأنه “لن يعود أحد … لكن هناك الكثيرين سيرحبون بزيارة القبور التي دفن فيها أجدادهم. الطائفة اليهودية العراقية هي الطائفة اليهودية الأكثر حماسة، ربما في أي مكان، في ارتباطها بمسقط رأسها بفعل تاريخها”.
وفي الآونة الأخيرة ارتفعت أصوات اليهود العراقيين لمطالبة الحكومتين العراقية والإسرائيلية بتعويضهم عن أملاكهم وخسائرهم، لكن إميل كوهين اليهودي العراقي الذي عاش أسلافه في البصرة وصف المطالبات التي تدعمها الحكومة الإسرائيلية بأنها مسألة سياسية ليست أكثر.