شفق نيوز/ تثير الخطوة الهوجاء من جانب الحكومة الاتحادية في بغداد بايقاف رواتب موظفي اقليم كوردستان العديد من علامات التساؤل في مضمونها، توقيتها، وتناقضاتها سواء مع الدستور أو مع متطلبات التعاون الهادئ والعقلاني مع اربيل في ظل تحديات استثنائية على كافة الصعد السياسية، الاقتصادية، والصحية.
فعلى الجانب السياسي، يكمن التناقض في ان حكومة عادل عبدالمهدي مستقيلة رسميا، وهي في حالة تصريف اعمال. لا بل ان عبدالمهدي نفسه أكد منذ بداية شهر آذار الماضي، في كتاب رسمي التخلي طوعيا عن دوره رئيسا للوزراء في حكومة تصريف الأعمال، وبأنه لن يقوم بمعظم مهماته الرسمية، مقترحا تكليف أحد نوابه أو الوزراء، مسؤولية إدارة جلسات مجلس الوزراء.
وفي ظل هذا المشهد المعقد سياسيا في بغداد بالنسبة لوضع رئيس الحكومة عبدالمهدي، واستمرار حالة الشلل السياسي والمراوحة بالنسبة الى رئيس الوزراء المكلف مصطفى الكاظمي الذي وقع لتوه "المنهاج الوزاري"، ولم ينل ثقة البرلمان حتى الان، يصير التساؤل في مرحلة كهذه تقع ما بين "التصريف والتكليف"، طبيعيا حول مشروعية الابتزاز المالي بهذه اللحظة الحساسة تحديدا.
وفي هذا الاطار، من المهم الاشارة الى ما قاله وزير الإعمار والإسكان العراقي بنكين ريكاني إن "عادل عبدالمهدي ليس مع قطع رواتب موظفي إقليم كوردستان وهو يتعرض الآن لضغوط كبيرة".
لكن الأكثر أهمية ربما التساؤل عما اذا كانت الحكمة السياسية – واستطرادا اخلاقيات العمل السياسي التشاركي – تقتضي اشعال فتيل أزمة مع اقليم كوردستان من خلال المس بمقدرات حياة ملايين الناس، من خلال افتعال أزمة "تسييس الرواتب".
جانب آخر من التناقض الذي شكلته خطوة قطع الرواتب، أنها بحد ذاتها تعتبر تأزيما اضافيا غير مفهوم يضاف الى رزمة كبيرة من التعقيدات السياسية التي خلفتها الحكومة الاتحادية مع كوردستان، اقله منذ العام 2014، حول أكثر من ملف، من بينها النفط والميزانية وكركوك والارهاب.
ويعني ذلك في الشق الاقتصادي، ان مبادرة قطع الرواتب من جانب الحكومة الاتحادية، لا تقل غرابة، اذ تدرك بغداد ان كوردستان تمر منذ العام 2014، اسوة بغيرها من دول الاقليم، بأزمات اقتصادية متفجرة بعد تراجع اسعار النفط بنحو 50 في المئة، ثم انهيارها مجددا في الاسبوعين الماضيين، والخراب الاقتصادي الذي خلفته "حروب داعش" ووجود اكثر من مليون نازح داخل اراضي الاقليم بمسؤولية كاملة من اربيل، وصولا الى الان مع ظهور فيروس كورونا بأعبائه وتحدياته الكثيرة.
واذا كان معلوما ان اقليم كوردستان يعتمد اساسا على مصدرين للتمويل، هما صادرات النفط (حوالى 300 الف برميل يوميا) تدار بشكل مشترك مع شركات دولية، و170 الف برميل يديرها الاقليم بنفسه، وثانيا المستحقات المالية المتفق عليها دستوريا مع بغداد، فان من البديهي القول انه مع تراجع اسعار النفط حاليا، الى جانب الاعباء الاقتصادية المتراكمة، يشكل قرار قطع الرواتب من جانب الحكومة الاتحادية، طعنة في صميم حياة المواطنين.
وسيفهم معنى هذه الطعنة بشكل أكثر وضوحا بعدما أكدت الوثائق التي نشرتها شفق نيوز ان الحكومة الاتحادية لم تقم بإرسال مستحقات الإقليم المالية منذ شباط 2014 والى العام 2019 ما ساهم بشكل حاد في التضييق على حياة مئات الاف المواطنين وتعثر أوضاعهم المعيشية. لا بل ان هذه الخطوة أجبرت حكومة الاقليم لتسيير أمورها على التقشف القاسي واقتطاع رواتب موظفي القطاع العام والاستدانة ومحاولة جذب الاستثمار بشروط اصعب.
وحسنا فعلت حكومة كوردستان برسالتها المؤرخة في 28 نيسان 2020 الى الامانة العامة لمجلس وزراء الحكومة الاتحادية، بتذكيرها بأن "الدستور قد ضمن حق المشاركة كمبدأ تأسيس للنظام الاتحادي للاقاليم والمحافظات غير المنتظمة في اقليم في السلطات الاتحادية وفق مبادىء المساواة وتكافؤ الفرص والعدالة والتي لا يمكن ان تكون قائمة دون تبني مبدأ المساواة بين مواطني الاقليم والمحافظات العراقية الاخرى من حيث التمتع بالحقوق ومنها الرواتب والاستحقاقات المالية للموظفين وان الايعاز بوقف تمويل رواتب موظفي الاقليم يعد تجاوزا لما ذكر وخصوصا ان تمويل رواتب موظفي الحكومة الاتحادية في المحافظات العراقية الخمس عشرة تسير بانسيابية دون تعليقها على شروط، مؤكدا ان موظفي الاقليم لا يختلفون شأنا عن موظفي بقية أجزاء العراق يؤدون خدمة عامة ضمن كيان الدولة".
يستعاد هذا البند من الرسالة بشكل كامل لانه يؤكد نقطة جوهرية في دفاع حكومة كوردستان عن حقوق الموظفين، اذ تفضح اللامساواة التي انتهجتها الحكومة الاتحادية في تعاملها مع المواطنين الذي هم سواسية أمام الدستور الاتحادي، ويمكنها البناء عليها من أجل بلورة قضية قانونية وسياسية محقة حماية لأموال الموظفين وصيانة لعائلاتهم ووجودهم.
لكن الأكثر غرابة في قرار قطع الرواتب بحسب وثائق حكومة اقليم كوردستان والتي نشرتها شفق نيوز، ان الحكومة الاتحادية لم تلتزم بنص قانون الادارة المالية الذي يشير الى حق إقليم كوردستان، أسوة بغيره من المحافظات، نسبة 1/12 شهريا من المصروفات الفعلية للنفقات الجارية للسنة المالية 2019، إلا أن هذه المستحقات لم تحول الى خزينة الاقليم في الأشهر الثلاثة الأولى من سنة 2020، ما عدا تعويضات موظفي الإقليم، ما يجعل من قرار الحكومة الاتحادية عملا كيديا لا مبرر منطقيا له. واذا كانت الحكومة الاتحادية ملزمة قانونيا (بحسب المادة 10/ثانيا-ج) دفع مستحقات اقليم كوردستان المالية، فانها تسمح لها باقتطاع مبلغ الضرر من حصة الإقليم في حالة عدم تسليمه الحصة المتفق عليها من النفط. ويصبح السؤال هنا طبيعيا: لماذا لم تقتطع تلك الاموال التي تقول انها مستحقة لها مثلما ظلت تفعل حتى نهاية 2019، مع ايفائها في الوقت نفسه بالتزامتها المالية الاخرى تجاه مواطني كوردستان؟
ولا حاجة للقول بأن "تسييس الرواتب" سيترك ندوبا عميقة في جسد العلاقة بين بغداد واربيل وهي بالكاد تحاول النهوض من آثار عقود من الألم والريبة بعد دستور العام 2005. لكن الانقضاض على رواتب موظفي كوردستان، سيساهم في تبديد الثقة القائمة الان بحدودها الدنيا مع استمرار تجاهل الحكومة الاتحادية لالتزاماتها الدستورية ومحاولاتها الدائمة التملص منها.
ولم تعد مقنعة تصريحات نواب في البرلمان العراقي الدفاع، او محاولة تبرير، قرار قطع الرواتب من جانب الحكومة الاتحادية، والسعي الى ادراجها ضمن المصاعب المالية التي تواجهها بسبب تردي اسعار النفط وتضرر ميزانية الدولة، ذلك ان الازمة الاقتصادية تصيب الجميع في العالم، وهي تفاقمت بفعل الشلل الاقتصادي الذي خلقه فيروس كورونا، والأمر ليس محصورا بالحكومة وحدها في بغداد، وبالتالي فان الحكومة الاتحادية يجب الا تعتبر نفسها معفية من التزامتها المتفق عليها، وليس بامكانها القاء تبعات ذلك على كوردستان.
وقد عبر عن ذلك نائب رئيس البرلمان العراقي بشير الحداد الذي دعا الحكومة الاتحادية إلى الافراج عن مستحقات إقليم كوردستان المالية وتعريض مصادر رزق المواطنين ومعيشتهم إلى الخطر وخاصة في ظل الظروف الصعبة فضلا عن ما يسبب ذلك من مساس باللحمة الوطنية والأذى لأبناء الشعب الواحد"، مؤكدا على ضرورة الالتزام بتطبيق المادة (١٠/ثانيا/ج) التي اشرنا اليها سابقا.
ويقود ذلك في ما يعنيه، ان القرار ليس اقتصاديا بشكل بحث، وانما قد تكون خلفه بواعث سياسية للضغط على حكومة الاقليم، بملفات أخرى يعتقد انها مرتبطة بالصراع السياسي القائم في بغداد حول ولادة حكومة مصطفى الكاظمي واحتضار حكومة عادل عبدالمهدي، وتلميحات بوجود دور ايراني مرتبط بمواجهة النفوذ الاميركي العسكري في العراق عموما.
ومهما يكن، فقد صدرت اشارة لافتة للانتباه من جانب وفد حكومة اقليم كوردستان المفاوض الذي زار بغداد مؤخرا وهو تحدث صراحة عن وجود ضغوط سياسية لافشال الاتفاق النفطي المبرم بين حكومة الاقليم والحكومة الاتحادية، ولهذا ربما فان "تسييس الرواتب" يبدو محاولة لتحقيق تلك المآرب.
وقد أثار القرار عاصفة من الحراك السياسي المكثف لانهاء قضية الرواتب المفتعلة. رئيس اقليم كوردستان نيجيرفان بارزاني التقى جينين بلاسخارت ممثلة الأمين العام للأمم المتحدة في العراق، وبحث معها "الاجراء غير الدستوري وغير القانوني" من جانب الحكومة الاتحادية. وفد حكومة كوردستان برئاسة قوباد طالباني، اجتمع مع رئيس البرلمان محمد الحلبوسي، والتيار الصدري وكتلة الحكمة. قوباد طالباني اجتمع ايضا مع السفير الأميركي في العراق ماثيو تولر، ومع وزير النفط العراقي ثامر الغضبان. وكان رئيس الجمهورية برهم صالح التقى برئيس اللجنة المالية في مجلس النواب هيثم الجبوري ايضا، مؤكدا أن "تسوية المطالبات المالية استحقاق مطلوب حسب الدستور وقانون الموازنة، لكن يجب أن لا يمنع ذلك الالتزام بتأمين رواتب الموظفين في الإقليم أسوة ببقية أنحاء العراق كونها حقاً دستورياً ويجب حمايتها من المتغيرات السياسية".
الأكثر غرابة واثارة للتساؤل في كل ما يدور حول قضية قطع الرواتب، ان الحكومات الاتحادية المتعاقبة التي جعلت العراق لسنوات طويلة، وما زال، بين الدول الاكثر فسادا في العالم، بحسب الامم المتحدة نفسها ومنظمة الشفافية الدولية، والحديث هنا يدور عن عشرات مليارات الدولارات، ولم تبذل حتى الان جهودا يعتد بها لاسترجاع الاموال المنهوبة، تتذرع الان بالازمة الاقتصادية او بخلاف لم يحسم حول مدفوعات مبيعات نفطية، للانقضاض على رواتب الموظفين في كوردستان!، وهو ما يطرح كل ما سبق من تساؤلات سياسية واخلاقية.